يحلو للمزارعين الاعتقاد أنّ القضاء على الزيتون مستحيل. فعدا البُعد الميثولوجي لهذه الشجرة المنبثقة من الطوفان الأعظم، فإنّها قادرة على تحدّي أصعب الظروف الطبيعية وصولاً إلى الحريق. والأهمّ أنّ تجدّدها مرتبط بالحاجة الكبيرة إليها في كلّ الأزمان. ومع هذا، فإنّ زيتون لبنان يعاني، والمزارعين يخشون على واقعه ولو أنّ استمراره على المدى الطويل مضمون.

جنوباً، أحرق كيان العدو الإسرائيلي 5 آلاف شجرة زيتون حتّى آذار الماضي بالفوسفور الأبيض، بحسب تصريحات وزير الزراعة عباس الحاج حسن. أمّا شمالاً، فالأشجار التي صمدت في وجه انبعاثات معامل الإسمنت، ومحافرها، تتحوّل علفاً للحيوانات "السارحة" في طول البراري وعرضها. في حين يغزو الزيت المغشوش المهرّب كلّ لبنان ملحقاً خسائر فادحة بالبساتين والمزارعين والمواطنين على السواء.

الرعي الجائر يفتك بالزيتون شمالاً

أخيراً، أعلنت جمعية مزارعي الزيتون في الكورة: "على الرّغم من الإنذارات التي سبق أن وجهتها محافظة الشمال إلى الرعاة بضرورة إجلاء مواشيهم عن الكورة، ورغم أخذ تواقيعهم وتعهدهم مغادرة جميع قرى الكورة المحميّة، ما زلنا نشاهد استهتاراً بالقوانين وبالجهات المكلّفة تنفيذ قرارات الحماية الإجبارية. و"بدلاً من تنفيذ القرارات وإجلاء المواشي نرى هذه تزداد عدداً بشكل خطير"، يقول رئيس جمعية "بلادي خضرا" جورج العيناتي. إذ يعمد أصحاب المواشي إلى تضمين أملاك البلدات لرعاة الماعز والأغنام من مناطق أخرى. والأخطر إطلاق بعض أصحاب المشاريع التجارية قطعان الخيول في أراضي الآخرين، وهذه ظاهرة لم تشهدها بقية المناطق اللبنانية. إذ يؤدّي ذلك إلى "تحجّر" الأراضي، وإلحاق خسائر كبيرة بالمزارعين ومعدّاتهم أثناء حراثتها نتيجة تصلّبها". العيناتي الذي يطالب القوى الأمنية بتنفيذ قرارات الحماية الإجبارية في الكورة، يشدّد على "أهمية تنفيذ جمعية مزارعي الزيتون مع مديرية التنمية الريفية قرار الحماية الإجبارية لمشروع تحريج كفرحزير بعدما أفضى منع الرعي في هذا المشروع إلى نموّ الأغراس الفتيّة بشكل تلقائي وواسع".

أحرق كيان العدو الإسرائيلي 5 آلاف شجرة زيتون حتّى آذار الماضي...

الزيت في مواجهة التهريب

تقدّر ثروة لبنان من أشجار الزيتون بحوالى 15 مليون شجرة بحسب آخر الإحصاءات الرسمية لوزارة الزراعة، في حين قد يتجاوز العدد الفعلي 20 مليوناً بحسب تقديرات جورج العيناتي، وذلك رغم الاكتساح العمراني ومرض عين الطاووس. وتنتج الشجرة الواحدة قرابة 30 كيلوغراماً من حب الزيتون معدّلا متوسّطاً سنوياً، وبكمّية إجمالية تصل سنوياً إلى نحو 500 ألف طن. وينتج لبنان سنوياً قرابة 75 ألف طن من زيت الزيتون. هذه الكميات من الزيت والزيتون تكفي حاجات الاستهلاك الداخلي وتفيض عنها أضعافاً مضاعفة، مكوّنةً مصدر دخل وافر"، بحسب العيناتي.

الاعتماد الكبير على زراعة الزيتون وإنتاج الزيت الذي ظلّ حتّى منتصف السبعينيات من القرن المنصرم حرفة أساسية يعتمد عليها الكثير من المزارعين، ومصدر دخل داعم لأغلبية الأسر، دخله الزيت المستورد والمزور من دون حسيب أو رقيب وبكمّيّات كبيرة. فأُغرقت الأسواق بالزيت الأجنبي المجهول الجودة، وذي الأسعار البخسة، وكسد الزيت المحلي، ولحقت بالمزارعين خسائر فادحة نتيجة ارتفاع التكاليف الانتاجية، وتَراجع الاهتمام بقطاع الزيتون. وعلى الرغم من نجاح المزارعين بممارسة الضغوط على الحكومات المتعاقبة لمنع إعطاء استيراد الزيت الإجازة المسبقة إلّا بإذن خاص من وزارة الزراعة، فإنّ ما لم يعد يدخل من الباب الشرعي أصبح يدخل تهريباً"، بحسب العيناتي. فيصل الزيت المهرب إلى مستودعات بعض التجّار أو إلى المنطقة الحرّة بحجّة إعادة تصديره، أو يجري إدخاله تحت بنود جمركية أخرى. فيباع قسم منه في السوق المحلّية والقسم الآخر يعاد تعليبه وتصديره على أنّه منتج لبناني. فيدفع الاقتصاد اللبناني الثمن ثلاث مرات نتيجة هذا الغشّ المتمادي، مرّة في منافسة الزيت المحلّي ذي الجودة المرتفعة، ومرّة في تشويه سمعة لبنان في الأسواق الخارجية، ومرّة في تحميل المواطن والجهات الضامنة فاتورة صحّية مرتفعة نتيجة احتواء هذا الزيت على مواد خطرة غير مخصصة للاستهلاك البشري. فقسم من الزيت المهرّب مصنّع من جفت حبوب البندق التركي، ومخلوط بمواد كيميائية ضارّة. لهذا يجب على المستهلك اللبناني شراء الزيت من المزارعين المحلّيين والمعاصر والجمعيات التعاونية الزراعية.

مخاطر معامل الإسمنت والمقالع

المخاطر على شجرة الزيتون لا تقف عند هذا الحد، بل تتعدّاه إلى ما هو أخطر بكثير. فإذا كان إنفاذ قوانين الرعي الجائر ومنع التهريب كفيلين بوضع حدّ للقضاء على النصبات الجديدة والزيت المغشوش، فإنّ مصانع الإسمنت منتصبة دائماً لتشكّل خطر إبادة هذه الشجرة ولا سيما في شمال لبنان حيث حوّلت غابات الزيتون الأهم في الشرق الاوسط إلى جحيم من المقالع في قلب سهل زيتون الكورة، مقتلعةً ما يزيد على مليون شجرة زيتون، ومحوّلة السهل إلى مستنقعات أدّت إلى انتشار مرض عين الطاووس الفطري بشكل هو الأخطر في العالم. هذا عدا أنّ انبعاثات المعامل السامّة التي تلحق الأضرار بأبناء الكورة من المزارعين الذين يهتمّون بشجرة الزيتون. كما سبّبت إزالة الجبال عن الواجهة البحرية تغيّرات مناخية خطيرة جداً في المنطقة، وأدّى إطلاق مليارات الأطنان من الغازات السامّة والكبريت التي تتحوّل أمطاراً أسيديه، إلى القضاء على الأشجار والغطاء النباتي. "وهذه المقالع لا يمكن أن تستمر"، بحسب العيناتي، "وكلّ المهل التي تعطيها الحكومات ساقطة لتعارضها مع رأي هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل ومجلس شورى الدولة. ذلك أنّ صلاحية الترخيص منوطة بالمجلس الوطني للمقالع والكسارات، الذي من المستحيل أن يعطي تراخيص للمقالع فوق المياه الجوفية وبين المنازل والأراضي المحميّة ومجاري الأنهر والينابيع وخارج خريطة المقالع والكسارات بالسلسلة الشرقية.

من الواضح أنّ الدولة تنكّرت لزراعة الزيتون مسبّبةً أفدح الأضرار في هذا القطاع الوطني. ومع هذا، فإنّ معدّل النموّ السنوي ما زال يراوح، بحسب العيناتي، بين 2.5 و 5 في المئة، وهو ما يدلّ على فعل صمود المزارع وتعلّقه بهذه الشجرة رغم كلّ الظروف الصعبة.