تنتهي مطلع العام 2025 المهلة الزمنية لـ "الإستراتيجية الوطنية للزراعة في لبنان" بعد خمس سنوات على إطلاقها، و"الواقع الزراعي من سيئ إلى أسوأ"، بحسب ملاحظات أرباب القطاع. فكلفة الإنتاج المرتفعة "تذبح" المزارعين بـ "نصل" الواقع المأزوم. و"روح" الإنتاج التي يبعثها التصدير في القطاع مخطوفة بمقاطعة الأشقّاء. وباب الاستيراد التنافسي مفتوح على مصراعيه، وما يضيق به، يتمّ إدخاله من "شبابيك" التهريب الواسعة. الإصلاحات الفعلية مغيّبة، وكلّ الوعود عن تأمين الحماية الاجتماعية للمزارعين "يبّستها" رياح الشمال الباردة.
ارتبطت أهمّية القطاع الزراعي في السنوات الأخيرة، ولا سيّما عقب جائحة كورونا وتقطّع سلاسل التوريد، بقدرته الفريدة على توفير الأمن الغذائي للمواطنين؛ هذا عالمياً. أمّا محلّياً، فبالإضافة إلى هذا العامل المركزي، أدّى اعتماد لبنان الكبير على القمح الأوكراني، والعجز عن تكوين مخزون حبوب إستراتيجي، وعرقلة الاستيراد والتصدير عبر البحر الأحمر، وعدم كفاية الإنتاج الزراعي، إلى انكشاف لبنان غذائياً.
الخطط الزراعية قاصرة ولا تطبّق
لم تفلح الإستراتيجيتان الزراعيتان الخماسيتان منذ العام 2015، إلّا "بتكرار الأفكار التقليدية الخالية من قراءة التطوّرات العالمية، مع عجز فاضح عن التنفيذ"، يقول رئيس اللجنة الاقتصادية في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في زحلة والبقاع طوني طعمه. فـ "الإستراتيجيات يجب أن تكون بعيدة المدى، وقابلة للتطوير مع المتغيّرات المحلّيّة والعالمية. فالأرض اللبنانية خصبة، والمزارع نشيط، إلّا أنّ نوعيّة الزراعات قديمة وتقليدية ولم تعد تتوافق مع متطلّبات الأسواق العالمية". فزراعة الموز التي كانت تعتمد على التصدير إلى سوريا مثلاً، تواجه سلّة من المعوقات التي تمنع تصديرها. فاضطر المزارعون إلى اقتلاعها واستبدال الأفوكادو بها بشكل فردي. وعلى غرار الموز، هناك عشرات الأصناف التي لم تعد مطلوبة أو تواجه بمنافسة شرسة من منتجات الدول التي تدعم تكاليف الإنتاج والتصدير، ومنها تركيا. وعليه، فإنّ "الأولوية كان يجب أن تذهب إلى الإرشاد الزراعي، والانتقال نحو المزروعات ذات القيمة المضافة العالية والقدرة التنافسية الكبيرة في الأسواق العالمية، حتى بالنسبة إلى المنتوجات نفسها"، برأي طعمه. "فبدلاً من زراعة التفاح التقليدي الذي يرمى نصفه، يمكن أن نزرع التفاح النخبوي الذي تباع الحبّة منه بدولار في الأسواق الأوروبية أو الشرق آسيوية. الأمر الذي يعود على المزارعين والاقتصاد بالعديد من الفوائد".
التشجيع على الزراعة لا يمكن أن يؤتي ثماره نظرياً، بل تطبيقياً، وهذا ما نفتقده في لبنان. ففي حين نفرّغ الأقلام ونملأ الصفحات بالنظريات، "تواجه هولندا الجفاف الذي يضرب أوروبا ويقلّص كمّية المنتوجات، بالانتقال إلى الزراعة في الماء، المعروفة تقنياً بـ هيدروبونيك"، يضيف طعمه. "وتؤمّن هذه الطريقة وفرة الإنتاج على مدار العام وحمايته من الأمراض وتوفير الماء في الوقت نفسه".
القمح مثالاً على عدم تطوير الزراعة وتشجيع المزارعين
إذا أردنا تقييم الخطط الزراعية في لبنان فما علينا إلّا مراقبة واقع القمح. فأهمّية هذه السلعة لا تقتصر على دورها المحوري في الأمن الغذائي، إنّما بالإمكانات الكبيرة التي تكتنزها كمّاً ونوعاً في بلد كان يعرف في ما مضى بـ "إهراءات روما". "ينتج لبنان حوالى 80 ألف طن من القمح، تمثّل 20 في المئة من مجمل حاجاته المقدّرة بـ 500 ألف طن سنوياً، ويستورد الباقي"، بحسب طعمه. "وعلى الرّغم من هذا الإنتاج المتواضع جداً، يعجز المزارعون عن تصريف إنتاج القمح الطريء الذي يلائم صناعة الخبز العربي، أو القمح القاسي لإعداد البرغل والمعكرونة، ويمنع المزارعون من تصدير الصنف الأخير إلّا بأذونات خاصّة، بحجّة أنه سلعة إستراتيجية. مع العلم أنّه ليس مطلوباً محلياً لصناعة الرغيف. فيتعفّن في المستودعات ويتكبّد المزارعون خسائر عاماً بعد آخر".
عرقلة تطوير البنى التحتية للقطاع الزراعي
الأمور لم تقف عند هذا الحد، بل إنّ القطاع الزراعي فقد خلال السنوات العشرين الأخيرة فرصاً عديدة لتطويره"، يقول رئيس جمعية المزارعين اللبنانيين أنطوان الحويك. خصوصاً من حيث إهمال أو حتّى عرقلة تطوير البنى التحتية الأساسية للقطاع، ومن أهمّها:
مصرف الإنماء الزراعي. مُنع هذا المصرف من توفير التمويل اللازم والمطلوب له من قبل الاتحاد الأوروبي.
السجلّ الزراعي. حيث رفض رغم العمل الطويل على جمع كلّ تفاصيله ومناقشته في مجلس النواب.
الغرف الزراعية المستقلة. رفضت أيضاً.
الصندوق الوطني للضمان الزراعي من الكوارث. لم يتمّ إصدار قانون الصندوق. وذلك على الرّغم من اتفاق جميع المكوّنات السياسية على هذا القانون منذ العام 2005.
الحماية الاجتماعية للمزارعين. ما زال المزارعون مهمّشين ولا يدخلون في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعمل الأكثرية بشكل غير نظامي.
ومن شأن قيام هذه المؤسسات "تطوير القطاع الزراعي"، برأي الحويك، "ومساعدة المزارعين وضمان استمراريتهم حتى في الظروف الصعبة".
التعلّم من الفَشَل، فشِل!
تتضمّن الإستراتيجية الوطنية الزراعية (2020 – 2025) في الصفحة الرقم 7 عنواناً أساسياً هو "الدروس المستقاة من الإستراتيجية السابقة (2015 – 2019). وهي تنصح بمعالجة نقاط الضعف التي كانت متمثلة في : الحوكمة، التنسيق والتعاون بين مختلف أصحاب المصلحة، تحديث تأمين الخدمات العامة، الإصلاح التنظيمي وتطوير القدرات في وزارة الزراعة، وضع آلية فعّالة للمتابعة والتقييم، التركيز على النتائج، تعبئة الموارد والمساواة والإدماج الاجتماعي. وتبيّن من تعليق أرباب القطاع أنّ المشكلة لم تقتصر على معالجة نقاط الضعف هذه فحسب، إنّما على تدهورها في السنوات الماضية. فموازنة الزراعة اضمحلّت حتى كادت تختفي، والمزارعون يعملون فرادى، والتطوير يقوم على المبادرات الفردية، والتعاون بين القطاعين العام والخاص غائب، واللامساواة تعمّقت أكثر فأكثر، والحماية الاجتماعية انعدمت والحوكمة أصبحت أثراً بعد عين.
"إيدال" ودعم تكاليف الصادرات
ما فاقم مشكلات المزارعين كان أيضاً إيقاف العمل ببرنامج دعم الصادرات الزراعية من قبل المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمار "إيدال" في الوقت المخطئ. فهذا البرنامج الذي كان مخصصاً لمساعدة المزارعين على تخطّي عراقيل التصريف وتصدير الإنتاج بسبب ارتفاع تكاليف النقل توقّف، ولم تُسدّد مستحقّات المزارعين التي تعود إلى السنوات السابقة، برغم تآكل قيمتها مع انهيار الليرة. فأصيب المزارعون بخيبة مزدوجة.
مع بداية الحرب على قطاع غزة، عامت على وجه معالم الصمود عبارة "نحن هنا ما زلنا بخير، طمنّونا عنكم"، التي يتداولها الغزاويون صباح كلّ يوم جديد للاطمئنان بعضهم على بعض. وبإمكاننا استعارة هذه الجملة للقطاع الزراعي في لبنان. ومن دواعي الأسف ليس القطاع الزراعي بخير ولبنان معرّض لـ "فقدان هذا العماد الأساسي في بنيانه الاقتصادي، مع عجز فاضح عن إمكان تغييره ما دامت هذه الطبقة السياسية في الحكم"، برأي الحويك. وكلّ هذا لمصلحة استمرار قطاع الريع القائم على الدعم حيناً، والمنافسة على صيرفة حيناً آخر وإهدار المساعدات وتهريب الأموال وإنفاق تحويلات المغتربين على الاستهلاك في جميع الاوقات.