يختلف المنتجون اللبنانية على أهمّية قطاعاتهم الانتاجية، ومدى مساهمتها في الناتج المحلّي والنمو الاقتصادي، وأحقّيتها بمعاملة تفضيلية، ومدى توظيفها لليد العاملة وأمور أخرى كثيرة. لكنّهم يتفقون على أنّ "التصدير حياة للإنتاج". خصوصاً في بلد صغير ذي قدرة شرائية ضعيفة، يتنفّس من "رئة" الدولار.
السعي لرفع الصادرات كمّاً ونوعاً وفتح أسواق جديدة خلال السنوات العشر الأخيرة، عُرقل بالعديد من المعوّقات الداخلية والخارجية. فارتفع العجز في الميزان التجاري مع 12 دولة عربية إلى نحو 10 مليارات و 348 ألف دولار، بحسب إحصاءات دليل الصادرات والمؤسسات الصناعية اللبنانية خلال العشر سنوات الماضية من 2014 حتى 2023. في حين حقّق الميزان التجاري فائضاً مع 6 دول عربية بقيمة 3 مليارات 498 مليون دولار. وعليه، يكون الميزان التجاري مع الدول الثماني عشرة العربية عاجزاً بقيمة تقارب 7 مليارات دولار.
أسباب تراجع الصادرات اللبنانية
أسباب تراجع الصادرات إلى الدول الشقيقة لا ترتبط بتدنّي جودة البضائع اللبنانية، ولا سيّما الصناعية منها، ولا بانخفاض جاذبيتها، إنّما بثلاثة عوامل أساسية واحد منها فقط خارجي، واثنان داخليان.
السبب الخارجي
تعتبر عراقيل التصدير الأمنية والمادّية عبر سوريا بصفتها المنفذ البري الوحيد للبنان إلى أكثر الدول العربية، من أهمّ أسباب تراجع الصادرات إلى الدول العربية. فحتّى العام 2019 ظلّت أكبر المعابر الحدودية بين سوريا والأردن (معبر نصيب)، وبينها وبين العراق (معبر القائم) مقفلة بشكل كلّي نتيجة الحرب. فيما كانت بقية المعابر الشرعية تفتح حيناً وتقفل أحياناً نتيجة الخلافات السياسية، الأمر الذي حدّ من إمكانية تدفّق البضائع اللبنانية من سوريا إلى بقية البلدان الخليجية. ونشطت من الجانب الآخر المعابر غير الشرعية، التي، بالإضافة إلى عدم أمانها، تتصف بارتفاع كلفتها نتيجة الخوّات الكبيرة التي كان يطلبها المهرّبون والقيمون عليها. ومع العودة إلى بدء فتح المعابر تدريجياً منذ العام 2018، رفعت سوريا رسم العبور عبر أراضيها. فأضحت كلفة مرور الشاحنة في الأراضي السورية تحتسب على أساس وزنها مضروباً بعدد الكيلومترات التي تقطعها داخل الأراضي السورية، مضروباً بـ 0.108 دولار. وعليه، فإنّ الشاحنة المحملة زنة 44 طناً ويتوجب عليها قطع حوالى 1000 كيلومتر في الأراضي السورية إلى الحدود العراقية تكلّف قرابة 5000 دولار في طريق الذهاب، وحوالى 2000 دولار في طريق عودتها فارغة إلى لبنان. وتُضاف إلى رسوم العبور، رسوم حدودية ارتفعت من 40 دولاراً إلى نحو 100 دولار ابتداء من العام 2019. ويتمّ أحياناً كثيرة وضع رسوم على المنتجات، مثل رسم بقيمة 200 ليرة سورية على كلّ كيلوغرام من الموز اللبناني في العام 2022. ونتيجة إقفال المعابر وارتفاع كلفة الشحن انكفأ العديد من المصدّرين، ولا سيّما الصغار منهم، فيما استمر التجار في التصدير مع إضافة الرسوم إلى كلفة البضائع، الأمر الذي أدّى إلى تراجع قدرتها على منافسة البضائع الأجنبية، وخصوصاً التركية، في الأسواق العربية.وهذا ما حدّ بشكل كبير من تراجع الصادرات وعائداتها.
على الرغم من هذا الواقع، فإنّ الصادرات من لبنان إلى سوريا نفسها لم تتأثّر بشكل كبير، بل حافظت على صدارتها لمصلحة لبنان. إذ تظهر إحصاءات دليل الصادرات والمؤسسات الصناعية اللبنانية وصول قيمة استيراد سوريا من لبنان خلال السنوات العشر الماضية إلى مليار و973 مليون دولار وبفائض ربحي لمصلحة لبنان بقيمة 760 مليون دولار. أمّا العراق فقد احتلّ المرتبة الثانية من حيث الاستيراد من لبنان والمرتبة الأولى من حيث الفائض الربحي، إذ بلغت قيمة ما استورده من لبنان خلال السنوات العشر الماضية ملياراً و676 مليون دولار مقابل تصدير بلغ حوالى 49 مليون دولار، أي بفائض ربحي قدره مليار و628 مليون دولار.
وبحسب مصادر في كبريات شركات النّقل، بحسب بيان "دليل الصادرات والمؤسسات الصناعية اللبنانية" فأنّه "لولا حالة الحرب والأزمات التي كانت تمرّ بها سوريا والأحداث الداخلية في بعض مناطق العراق، إضافة إلى احتلال القوات الأميركية لمعبر التنف عند الحدود العراق، والتي رفعت أسعار النقل إلى أضعاف الكلفة الحقيقية، لكانت الصادرات اللبنانية إلى العراق وسوريا تضاعفت خمس مرات".
أسباب داخلية
السببان الداخليان الرئيسان لتراجع الصادرات، أو العجز عن زيادتها، إلى أكثر الدول العربية تمثّلا بـ:
* عدم وضع لبنان ضوابط جدّية وعملية للحدّ من تهريب المخدّرات عبر الشحنات الزراعية والصناعية إلى الدول العربية، وارتفاع منسوب الخطاب السياسي. الأمر الذي دفع بالعديد من الدول، وأهمّها السعودية والبحرين، إلى وقف الاستيراد من لبنان منذ العام 2021. وهو الأمر الذي قوّض كلّ الخطط التي كانت تعمل على مضاعفة الصادرات إلى السعودية بشكل أساسي، وحوّل الميزان التجاري مع السعودية من إيجابي إلى سلبي. وقد بلغ العجز في الميزان التجاري مع السعودية خلال السنوات العشر الأخيرة حوالى مليار و400 مليون دولار. ذلك مع العلم أنّ لبنان استطاع في العام 2020 تحقيق فائض في ميزانه التجاري مع السعودية بقيمة 35 مليون دولار. وخلافاً للعديد من وجهات التصدير، فإنّ الصادرات إلى السعودية تمتاز بالقيمة المضافة الكبيرة التي تعود على الاقتصاد اللبناني بالكثير من المنفعة، لكونها منتجات غذائية وفواكه وخضاراً وصناعات. وذلك خلافاً للصادرات إلى سويسرا المقتصرة على المعادن النفيسة والتي قد لا تحمل قيمة مضافة مرتفعة إلى الاقتصاد للبناني، على الرّغم من أنها بلغت مليار دولار في العام 2020 واستأثرت بـ 30 في المئة من مجموع الصادرات. ونتيجة هذا الواقع، قُوضت الجهود الصناعية التي كانت تعمل على رفع رقم الصادرات إلى السعودية من 250 مليون دولار في العام 2019 إلى 400 مليون بعد انخفاض قيمة العملة وتحسين القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية في أعوام الأزمة (راجع مقال: الصّناعة الوطنيّة "تتربّع" على الرّفوف الدّاخليّة و"تقفز" عن الرّفوف الخارجيّة).
* ارتفاع كلفة الإنتاج: السبب الداخلي الآخر الذي لا يقلّ أهمّية يتمثل في ارتفاع كلفة المنتجات اللبنانية الزراعية والصناعية على الرّغم من تراجع قيمة العملة الوطنية. وهذا يعود إلى "ارتفاع كلفة اليد العاملة بعد تصحيح الأجور وتكلفة الطاقة، خصوصاً إذا قورنت بالدول التي تنافس لبنان مثل مصر الأردن تركيا وسوريا"، يقول نائب رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين جورج نصراوي. وهي الدول التي تدعم صادراتها، إضافة إلى تراجع التكاليف الانتاجية لديها. مثلاً، تبلغ كلفة الطاقة في الصناعات الغذائية التي تعتبر أكثر الصناعات تصديراً، حوالي 15 في المئة من مجمل الكلفة الانتاجية مقارنة بمتوسط 5 في المئة في الدول المجاورة. وترتفع هذه الكلفة إلى نحو 35 في المئة في معامل تدوير الكرتون والبلاستيك. "الأمر الذي جعل لبنان يتصدّر دول العالم في تكاليف الطاقة حتى مقارنةً بالدول الأوروبية، وأثّر سلباً على قدرة المنتجات اللبنانية في المنافسة في الدول العربية، وبالتالي على الصادرات من لبنان"، يضيف نصراوي. "ولم تبلغ كلّ الجهود التي قادتها جمعية الصناعيين مع وزير الطاقة إلى عقلنة التعرفة وتخفيض الكلفة، أيّ نتيجة حتى اليوم".
عراقيل التواصل
إضافة إلى كلّ هذه العوامل، يواجه المنتج اللبناني معوقين أساسيين، بحسب نائب رئيس غرفة التجارية والصناعة والزراعة في زحلة والبقاع منير التيني، وهما: "العلاقات غير السوية بين لبنان والعديد من الدول العربية. وتقصير المسؤولين والوزراء المختصّين والبعثات الدبلوماسية في تسويق لبنان وفتح أسواق جديدة وإقامة اتفاقات ثنائية تساعد على انتشار البضائع اللبنانية وفتح أسواق لها، بغضّ النظر عن اتفاقية التيسير العربية لكونها اتفاقية شاملة جميع البلاد العربية".
ومن أبرز الدول العربية التي سجّل معها لبنان خسارة وعجزاً في التبادل التجاري كانت مصر. إذ بلغ هذا العجز ضد لبنان 3 مليارات و986 مليون دولار، تليها الكويت حيث بلغ العجز ملياراً و835 مليون دولار، ثم السعودية الذي بلغ العجز التجاري معها ملياراً و401 مليون دولار، ثمّ الإمارات حيث بلغ العجز معها 720 مليون دولار.
العمل على تحسين الميزان التجاري يجب أن يحتلّ الأولوية بالنسبة إلى الاقتصاد اللبناني. فهو الأقدر على تصحيح الخلل البنيوي في ميزان المدفوعات، ورفد الاقتصاد بالمزيد من الدولارات وتوسعة الأعمال واستيلاد فرص عمل. وطالما هو "طابش" لمصلحة أشقّائه فلا أمل أن يستقيم مع الأبعدين جغرافياً ثقافياً وحضارياً.