ينزل قول الأديبة أحلام مستغانمي "السعادة ليست في ما تملك، لكنّ الشقاء في ما لا تملك" حفراً وتنزيلاً على الواقع المالي في لبنان. استعارة هذه اللمعة من روايتها الأخيرة "الأسود يليق بك"، رغم الهوّة الساحقة بين العالم الأدبي الفوقي والمادي السفلي، أتت للقول إنّ مراكمة الدولة اللبنانية للفوائض المالية في حسابها المصرفي لا تؤمّن حاجات مواطنيها البديهية، ناهيك بالرفاهية المسبّبة للسعادة، في حين ما تفتقده من إصلاحات جوهرية هو الذي يصنع تعاستنا في هذا الوطن المأزوم.
المشهد الاقتصادي العام في بداية تموز كان سريالياً. الدولة تملك في حسابها في مصرف لبنان نحو 436335 مليار ليرة، (المبلغ يقارب 4 مليارات و875 مليون دولار على سعر صرف 89500 ليرة للدولار)، بحسب الموارنة نصف الشهرية لمصرف لبنان في 30 حزيران، في حين أنّ كلّ شيء معطل. البلد غرق في الظلمة بسبب العجز عن تسديد ثمن الفيول العراقي لمعملي الكهرباء. أوجيرو لم تحصل على أموالها من موازنة 2024 رغم مضي قرابة نصف عام، وستضطرّ مكرهةً إلى توقيف الاتصالات والإنترنت. وزارة المال لم تؤمّن سيّارات لنقل الأموال النقديّة من الجمارك إلى مصرف لبنان. وزارة الأشغال متوقّفة والطرق "تُرقّع" بمنح من جهات خارجية. الديون معلّقة. لقمة الفقير معرّضة للسحب من فمه مع انتهاء قرض البنك الدولي لشراء القمح. البرامج الاجتماعية متوقفة. الفقر تضاعف ثلاث مرات في عشر سنوات... إنّما ما يطمئن أنّ الدولة تمتلك 4.8 مليار في مصرف لبنان.
تعزيز إيرادات الدولة بالأرقام
بحسب الأرقام، ارتفعت إذاً ايداعات الدولة في مصرف لبنان من 186 ألف مليار ليرة في نهاية العام 2023 إلى 436 ألف مليار في آخر حزيران. وهذا الارتفاع يعود بشكل أساسي إلى "الفائض الذي حقّقته الدولة في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي"، بحسب كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث في بنك عوده الدكتور مروان بركات. "إذ كانت الإيرادات أكبر من النفقات. وهذا التطوّر مهمّ وأساسي وأدّى إلى تعزيز سعر الصرف". فعلى الرّغم من التطورات الأمنية والعسكرية المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد منذ 8 تشرين الأول 2023، والتي تقدّر كلفتها الإجمالية، بحسب بركات بـ "نحو 8 مليارات دولار، والنموّ السلبي للاقتصاد وبقيّة المشكلات... استطاع لبنان أن يحافظ على استقرار سعر الصرف حوالى أربعة عشر شهراً على التوالي". وهذا الأمر يعود إلى "الاستقرار في المالية العامة وعدم خلق نقد بالليرة اللبنانية (نقد بالتداول) إذ تراجعت الكتلة النقدية إلى حوالى 60 ألف مليار ليرة، توازي 660 مليون دولار تقريباً، وتشكّل 7 في المئة فقط من احتياطيات مصرف لبنان السائلة بالعملة الأجنبية المقدّرة بـ 9 مليارات و900 مليون دولار إلى نهاية حزيران. مع الإشارة إلى أنّ الاحتياطيات السائلة في المصرف المركزي ارتفعت قرابة المليار و400 مليون دولار منذ بداية آب الماضي، تاريخ انتهاء ولاية الحاكم رياض سلامة وتسلّم المجلس المركزي بقيادة الحاكم بالإنابة وسيم منصوري دفة القيادة.
الفوائض في المالية العامّة وميزان المدفوعات
عملياً، هذا الفائض الذي سجّلته الدولة اللبنانية، والذي يقدّر بين 500 و600 مليون دولار في الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري، أي بمعدل 100 مليون دولار شهرياً، عزّز استمرار استقرار سعر الصرف، رغم مفاعيل الحرب. كما أدّى الفائض في المالية العامة إلى "كبح النقد بالليرة وخلق المزيد من الليرات"، يضيف بركات. "الأمر الذي سمح بتعزيز احتياطيات مصرف لبنان. هذا بالإضافة إلى الفائض المحقّق في ميزان المدفوعات، والذي يبقى إيجابياً بحوالى 600 مليون دولار خلال النصف الأول من العام الجاري من بعد الأخذ في الاعتبار تصحيح سعر الصرف على ودائع غير المقيمين والانتقال من سعر 15 ألف ليرة إلى 89500 ليرة". من الواضح أنّ الفائض في الماليّة العامّة والفائض في ميزان المدفوعات أدّيا إلى استقرار سعر الصرف خلال الفترة الماضية رغم كلّ الضغوط.
"خنق" الاقتصاد
هذه الإجراءات أدّت إلى تجفيف السيولة بالليرة وساعدت على ضمان استقرار سعر الصرف، لكنّها خنقت البلد. فتوقّف إنفاق الدولة وعجز المودعون عن سحب كفايتهم من حساباهم المصرفية لتمويل نفقاتهم الاستهلاكية.
في المقابل، فإنّ الخشية من العودة إلى التوسّع في الإنفاق في المجالين العام والخاص في مكانها. إذ يوضح الرسم البياني أعلاه من "المعهد اللبناني لدراسات السوق" تلازم مساري الانفلاش النقدي بالليرة وارتفاع سعر صرف الدولار في السوق منذ نهاية العام 2019. فعندما كانت الكتلة النقدية بالليرة (M0) نحو 6587 مليار ليرة في منتصف تشرين الأول 2019، كان سعر الصرف لا يزال نحو 1600 ليرة، ومع ارتفاع الكتلة النقدية بلغ الـ 83 ألفاً و289 مليار ليرة في مطلع آذار 2023، ووصل سعر الصرف في السوق السوداء إلى نحو 130 ألف ليرة بعد أيام قليلة، وتحديداً في 20 آذار. ثم اجتمعت ثلاثة عوامل رئيسة لتخفيض الكتلة النقدية بالليرة، وهي:
فتح سقوف صيرفة منذ آذار 2023 إلى آب لامتصاص أكبر قدر من الليرات.
انتهجت القيادة الجديدة في مصرف لبنان مع انتهاء ولاية الحاكم السابق رياض سلامة سياسة نقدية متشددة وتوقّفت عن إقراض الدولة بالليرة والدولار.
تمّ تعديل سعر صرف الضرائب والرسوم في موازنة 2024 في كانون الثاني 2024، واحتسبت بمعظمها وفقاً لسعر صرف السوق، وخصوصاً بالنسبة إلى الرسوم الجمركية. الأمر الذي ساعد على امتصاص كمّيات كبيرة من الليرات لتسديدها إلى الدولة ضرائب ورسوماً.
توقّف مصرف لبنان عن "ليلرة" الودائع، بحسب التعميميْن 151 و158. فألغى إلزامية سحب 400 دولار بالليرة على سعر صرف 15000 ليرة بالنسبة إلى التعميم 158، وأصدر التعميم 166 الذي ينصّ على سحب 150 دولاراً نقداً، بدلاً من التعميم 151 الذي انتهى مفعوله مطلع العام، وكان ينص على إمكان سحب 1600 دولار على سعر صرف 15 ألف ليرة تعادل 24 مليوناً.
أدّت هذه العوامل مجتمعة إلى تراجع الكتلة النقدي بالليرة إلى نحو 57 ألف مليار ليرة في 29 شباط الماضي، وبالتالي، استمرار الاستقرار في سعر الصرف (ولو اصطناعياً من مصرف لبنان عند قرابة 89500 ليرة).
الجدير ذكره أنّ التوسّع في الإنفاق بالليرة لم يكن مردّه الوحيد تمويل نفقات الدولة، إنّما "ليلرة" الودائع أيضاً. وهذا ما يمكن أن يستدلّ عليه بقفز سعر الصرف في السوق السوداء مع كلّ تغيير في سعر صرف السحوبات المصرفية بحسب التعميم 151 من 2800 إلى 3900 ومن ثم إلى 8000 ليرة، وصولاً إلى 15000 ليرة. ولعلّ عدم توصّل "المركزي" و"المالية" بعدُ إلى تحديد سعر صرف للسحوبات من خارج التعميم 158 و166، مردّه إلى الخشية أيضاً من زيادة الليرات في السوق وتحوّلها إلى الدولار، وبالتالي التأثير سلباً في استقرار سعر الصرف.
الثبات الذي يبديه مصرف لبنان بموقفه تجاه تمويل الدولة، والضغط على المالية لكبح الإنفاق قد يتغير في أيّة لحظة. ذلك أنّ المركزي منفتح على إقراض الدولة بـ"القانون". وفي حال صدور قوانين تلزمه إقراض الدولة لتمويل نفقاتها المتنامية لزيادة الرواتب وتسديد الفواتير والديون ورفع الموازنات والتعويض عن أضرار الحرب وليلرة الودائع… فإنّ القدرة على ضبط سعر الصرف ستتهاوى وسنشهد مجدّداً قفزات في سعر الصرف. لن يتحقّق هذا التوازن بين الإنفاق العام واستقرار الليرة إلّا بالعودة إلى الإصلاحات، وفي طليعتها إصلاح القطاع العام وضبط المالية ووقف الهدر والفساد والصفقات وهيكلة القطاع المصرفي وفكفكة الاحتكارات التي لا تقدّم إلّا أعلى سعر لأسوأ خدمة في مختلف الميادين والمجالات.