لا تملّ السلطة السياسية من "تجريب المجرّب" بـ "اختراع" ضرائب جديدة يصعب تحصيلها، بالطريقة نفسها مراراً وتكراراً. وإذا "سمحنا لأنفسنا" معاكسة الطريقة الموضوعية التي تمليها علينا الأدبيات الصحافية، والقفز مباشرة إلى الاستنتاجات، لقلنا إنّ هذه السياسات مبنية على التضليل، أو ما يمكن أن نعبّر عنه بطريقة أدقّ باللغة الأجنبية بـ (bluffing). إذ توهم السلطة الرأيين العام والمحلي والمجتمع الدولي، نظرياً، بالعمل على وضع الإجراءات الإصلاحية، فيما تترك ثغرات تتسع "لإخراج أفيال" لضمان عدم تطبيقها. هذا ما حصل بالضريبة على "متربّحي صيرفة" و"مستغلّي الدعم" في موازنة 2024. وهذا ما قد يحصل بالضريبة المزمع تطبيقها على مسدّدي القروض بقيمتها غير الحقيقية في موازنة 2025.

في 11 حزيران الماضي، وجّهت وزارة المال كتاباً إلى جمعية مصارف لبنان، موضوعه: "طلب معلومات عن كلّ شخص سدّد مبالغ متوجبة عليه بغير الدولار النقدي". وللإيضاح، فإنّ من تستهدفهم الإدارة المالية هم الأشخاص الذين دفعوا أقساط قروضهم المصرفية المقوّمة بالعملة الأجنبية بالليرة اللبنانية على سعر الصرف الرسمي، وسعر صيرفة الذي تدرّج صعوداً من 1500 ليرة إلى 3900 ليرة و8000 ليرة وصولاً إلى 15 ألفاً. وتستهدف أيضاً الأشخاص الذين سدّدوا القروض بشيكات الدولار من الحسابات المحتجزة التي تعود إلى ما قبل نهاية تشرين الأول 2019، وهي المعروفة بـ "شيكات اللولار"، التي اشتُريت نقداً من السوق بخصم تدرّج انخفاضاً من 70 و80 في المئة من قيمتها وصولاً إلى أقلّ من 15 في المئة. وتتنوّع الفئات المستفيدة من الأفراد "المفتقرين" والميسورين أصحاب الشركات والمقاولين وتجّار العقارات والسياسيين وحتّى المصرفيين.

إخراج القروض السكنية من "الإحصاء"

انطلقت وزارة المال في طلبها هذا من المادة 23 من قانون الإجراءات الضريبية وتعديلاته رقم 44 تاريخ 11 تشرين الأول 2008. تنصّ هذه المادة على أنّه "يتوجّب على كلّ شخص، بما فيه الإدارات الحكومية والأشخاص المعنويين ذوي الصفة العمومية، والمؤسسات العامّة والبلديات واتحاداتها، بالإضافة إلى مختلف هيئات القطاع الخاص والنقابات، تزويد الإدارة الضريبية بأيّ معلومات تطلبها، وذلك للقيام بواجباتها". أمّا الهدف فقد حدّده الكتّاب بأنّ الإدارة الضريبية بصدد التدقيق في العمليات التي قام بها الأشخاص الطبيعيون والمعنويون من خلال استعمال الشيكات المحلّية الصادرة بالعملة الأجنبية أو استعمال التحاويل أو الحسابات المصرفية المحلّية لتسديد الديون المتوجبة عليهم لمصلحة المصارف. وطالبت المصارف بتحديد اسم المقترض ورقمه الضريبي وعنوانه وتحديد رصيد الدين في نهاية تشرين الأول 2019، وكيفية تسديد تلك المبالغ (دفعة واحدة أو على مراحل) وتاريخه وقيمته. وقد استثنت الإدارة الضريبية من هذه الجردة القروض السكنية فقط.

ضرائب مشابهة عصية عن التنفيذ

يأتي طلب وزارة المال هذا قبل أن "يجفّ دم" القرار الرقم 647/1، الذي فرض ضريبة على الأرباح المحقّقة من المعاملات على منصّة صيرفة للفترة الممتدة من 16 كانون الأول 2021 إلى مطلع أيلول 2023، وبنسبة 17 في المئة. وذلك استناداً إلى المادة الرقم 93 من قانون الموازنة اللبنانية لعام 2024 (قانون 324). كما أنّ طلب الوزارة يأتي بعد إسقاط المجلس الدستوري الضريبة "التوأم" في قانون الموازنة نفسه على الأرباح المحقّقة من الدعم. فالضريبة على الأرباح المحقّقة من صيرفة وجهت بعدم دستوريتها لكونها تُفرض بمفعول رجعي، وبرفض جمعية المصارف التصريح عن العمليات بحجّة أنّها محميّة بالسرّية المصرفية. فلماذا تتجه وزارة المال إذاً إلى إعطاء الجهات الرافضة التمريرة نفسها لنسف مثل هذا الإجراء، الذي، بغضّ النّظر عن تسميته بـ "الضريبة" أو "الجزية" أو "الغرامة"، يعتبر الأكثر عدالة إذا استطاع أن يصيب الشريحة المتربّحة على حساب أموال المودعين.

"تقّدر القروض المسدّدة بقيمتها غير الحقيقية في الفترة الممتدة من 30 أيلول 2019 إلى مطلع 2024 بـ 30 ملياراً و734 مليون دولار"

طلب المعلومات مختلف عن التكليف الضريبي!

"لا يمكن المصارف وجمعيتها التذرّع بالسرّية المصرفيّة لرفض كتاب وزارة المال"، تقول المحامية الدكتورة جوديتا التيني. "لأنّ الكتاب ليس تكليفاً ضريبياً ولا كشف حركة الأموال في الحسابات المصرفية، إنّما مجرد أخذ معلومات". صحيح أنّ الكتاب لا يذكر أيّ ضريبة من قريب أو بعيد، إلّا أنّ الجهة الصادر عنها "الإدارة الضريبية" والغاية من التحقيق بهذه المعلومات "ربما يهدف إلى وضع دراسة جدوى من أجل صوغ وزارة المال مشروع قانون، لفرض ضريبة على المستفيدين من هذه القروض"، بحسب التيني. "وقد تأتي الضريبة الجديدة التي قد تُستحدث في مشروع موازنة ٢٠٢٥ الذي تعدّه وزارة المال، أو في أيّ مشروع قانون مستقلّ".

التعاميم والضرائب

النقطة الجدلية الثانية التي قد تولّدها مثل هذه الضريبة المفترضة، هي أنّ تسديد قروض الدولار بالليرة أتى بسماح واضح وصريح من تعميم صادر عن مصرف لبنان. ولمن لا يتذكر، فإنّ المركزي سمح للمقيمين من أصحاب القروض الشخصية تسديد قروضهم بالليرة على أساس سعر الصرف الرسمي، وسمح للتجار والشركات المحلية تسديدها باللولار على سعر منصّة صيرفة. في حين طلب من الأجانب وغير المقيمين تسديدها بالدولار النقدي. "فعلى أيّ أساس، يُعاقب من طبّق تعميماً واضحاً وصريحاً من أعلى سلطة نقدية رسمية في البلاد؟" تسأل مصادر معنية. "والأسوأ أنّ طلب المالية استثنى جميع القروض السكنية على اختلاف أحجامها وقيمتها، وهو ما يدعونا إلى الشك والتساؤل هل كان الهدف حماية كبار السياسيين من المقترضين سكنياً والذين سدّدوا قروضاً بملايين الدولارات بفتات الليرات".

"في المنطق القانوني لا يجوز مناقشة تعارض التكليف الضريبي مع تعميم صادر عن مصرف لبنان"، تؤكّد التيني. "فمجال كلّ منهما ونطاق تطبيقه مختلف عن الآخر. مع العلم أنّ القروض قد تمّ ايفاؤها استناداً إلى وضع قانوني سليم. وهذا ينسجم مع مبدأ الأمان التشريعي القانوني، ومبدأ الثقة المشروعة للمواطنين، وبالتالي، لا مساس بالإيفاءات التي حصلت وإبراء الذمم". وبرأي التيني، فإنّ "فرض هذه الضريبة يكون مقبولاً ودستورياً من منطلق أنّها ضريبة استثنائية تفرض على أرباح تمّ تحقيقها وليست غرامة استثنائية استناداً إلى الفقرة د من المادة 4 من قانون ضريبة الدخل التي تكرّس مبدأ عاماً في القانون، وهو إخضاع أيّ دخل أو ربح مهما كانت طبيعته، للضريبة، إلّا إذا كان هنالك من إعفاء في القانون".

"تقّدر القروض المسدّدة بقيمتها غير الحقيقية في الفترة الممتدة من 30 أيلول 2019 إلى مطلع 2024 بـ 30 ملياراً و734 مليون دولار"، بحسب أرقام جمعية المصارف. ومن المتوقّع أن تغذّي الضريبة على هذه القروض صندوق استرداد الودائع المنوي تشكيله. فهل تنجح هذه الضريبة بعدما أخفقت مثيلاتها أم ستكون مادّة جديدة للخلاف والأخذ والردّ وتعميق المشكلات؟ الجواب رهن الأيام المطلّة.