تنهمك الأوساط الشعبية والرسمية اللبنانية بالسعر الذي ستؤول إليه ربطة الخبز عقب انتهاء قرض البنك الدولي المخصّص لدعم شراء القمح مطلع أيلول المقبل. بغضّ النّظر عن نسبة الارتفاع وضآلته لو "قُرّش" بالدولار، يبقى هاجساً حقيقياً عند صانعي القرار. فالخبز هو "عيش" الفقير، وأكثر السلع استهلاكاً يومياً في أوساط غير المقتدرين مالياً، ولا يمكن استبداله، أو كما يقال في علم الاقتصاد "إحلال" محله سلعة أرخص، لانعدام مرونتها. هذا عدا الرمزية التي يمثّلها الخبز في الثقافة الشعبية، وارتباطه بالكرامة والحرّية. وبالتالي، فإنّ أيّ مسّ به تعدّه الأكثرية انتهاكاً مباشرة لحقوق الفئات الضعيفة.
انطلاقاً من هذا الواقع، يجري العمل على ثلاثة مستويات شعبية ورسمية ونقابية تستعداداً لرفع الدعم:
نقابياً، تعمل الأفران، بحسب بيان لاتحاد نقابات الأفران والمخابز، على وضع خطّة لما بعد وقف الدّعم بغية ضبط المنافسة في السوق من أجل حسن استمرار العمل في القطاع وفقاً للقوانين والأنظمة المطبّقة للمحافظة على نوعية الرغيف وجودته.
رسمياً، يجري الحديث عن وضع مؤشر أسبوعي للخبز، كما يحصل في موضوع المحروقات. فتصدر تسعيرة أسبوعية عن وزارة الاقتصاد والتجارة، تأخذ في الاعتبار التغيّرات في أسعار المواد التي تدخل في صناعة الرغيف. بهذه الطريقة "تضمن الجهة الرقابية أمرين أساسيين"، بحسب مصادر معنية: "الأول، عدم تفلّت الأسعار واتفاق المخابز والأفران على وضع هامش ربح كبير. والثاني: ضمان استمرار بيع ربطة الخبز العربي الكبيرة بالسعر والوزن نفسيهما في جميع الأفران العاملة على الأراضي اللبنانية".
شعبياً، تعتزم نقابات عمّالية وأحزاب سياسية التحضير لتحرّكات احتجاجية رفضاً لوقف الدعم، ومطالبة السلطة السياسية بإعطاء الفئات الضعيفة بطاقات تمويلية تسمح لها بشراء الخبز بأسعار رخيصة.
تخفيض الدعم تدريجياً
مطلع آب 2022 أقرّ البرلمان اتفاقية قرض مع البنك الدولي مقداره 150 مليون دولار لتنفيذ مشروع الاستجابة الطارئة بغية تأمين إمدادات القمح. وكما يدلّ اسمه، يهدف القرض إلى دعم الطحين وصناعة الرغيف العربي، باستثناء بقية مكوّنات هذه الصناعة من محروقات وخميرة وسكّر وملح. وقد احتسب سعر صرف دعم الطحين للأفران في البداية على أساس 15 ألف ليرة للدولار، وأخذ يتدرج مع السنوات صعوداً مروراً بـ 30 ألف ليرة، و45 ألفاً، وصولاً إلى 60 ألفاً"، يقول أمين السر لاتحاد "نقابات الافران والمخابز" نعيم الخواجه. وعليه، يدفع الفرن اليوم 31 مليون ليرة لشراء طن الطحين (أرض المطحنة)، أو ما يعادل 320 دولاراً. ومع رفع الدعم كلّياً نهاية الشهر المقبل، يصبح لزاماً على الأفران شراء الطحين بسعر السوق، أي بنحو 40 مليون ليرة، أو ما يراوح بين 430 و440 دولاراً. "الأمر الذي يرفع سعر مبيع ربطة الخبز من 55 ألف ليرة حالياً إلى 70 ألفاً (أرض الفرن)"، بحسب الخواجه. "وسيرتفع سعر مبيعها في المحال التجارية إلى ما بين 80 و85 ألفاً بعد إضافة كلفة التوصيل وربح التاجر".
الأسرة ستنفق شهرياً نحو 5 ملايين ليرة ثمناً للخبز وحده
كلفة الخبز 28 ٪ من الحدّ الأدنى
بحسب الأرقام، ستبلغ نسبة ارتفاع الخبز قرابة 22 في المئة، إذا بقيت أسعار المازوت وسائر المكونات هي نفسها. أمّا في حال ارتفاعها بشكل أساسي، وارتفاع بقية التكاليف بشكل ثانوي، فإنّ سعر ربطة الخبز سيرتفع بنسبة موازية. وعلى الرّغم من كون سعر مبيع الربطة في الأسواق سيوازي بالعملة الأجنبية سعر المبيع قبل الانهيار، أي دولاراً واحداً، فهو يبقى كبيراً جداً خصوصاً بالنسبة إلى محدودي الدخل الذين يستهلكون يومياً بين 4 و 5 ربطات. وفي حال احتساب متوسط الاستهلاك بربطتي خبز في اليوم الواحد، فإنّ الأسرة ستنفق شهرياً نحو 5 ملايين ليرة ثمناً للخبز وحده، أي 28 في المئة من الحدّ الأدنى للأجور. هذا الرقم يعتبر كبيراً على مختلف المستويات والمقاييس.
مقارنةً بمصر مثلاً، ورغم تخفيض الدعم أخيراً على الخبز وزيادة الأسعار بنسبة 300 في المئة، فإنّ كل مواطن مسجّل على بطاقة التموين يحقّ له بـ 150 رغيفاً في الشهر بسعر 20 قرشاً للرغيف الواحد. وبالتالي، فإنّ الكلفة الشهرية لشراء الخبز الذي يكفي فرداً واحداً تبلغ 30 جنيهاً، أي أقلّ من دولار. ويستفيد من بطاقات الخبز المدعوم حوالى 70 مليوناً من أصل 106 ملايين مصري.
البطاقات التموينية لا تزال "على الطاولة"، ولكن!
الانتقال من دعم الطحين إلى دعم أكثر الأفراد حاجة في لبنان من خلال إعطائهم بطاقات تخوّلهم شراء الخبز بسعر مدعوم ما زالت "على الطاولة" على رغم كونها تبدو ضرباً من ضروب المستحيل. فعدا الفوضى التي ترافق مثل هذه العملية في بلد ليس فيه تنظيم ولا أرقام دقيقة، فإنّ أعداد المحتاجين فعلياً تفوق بأشواط عدد العائلات المسجّلة في برامج المساعدات الاجتماعية في وزارة الشؤون الاجتماعية. وبحسب الأرقام، فإنّ شبكة الحماية الاجتماعية لا تغطّي أكثر من 4 في المئة من المواطنين مقارنة بمعاناة 40 في المئة من الفقر بحسب التقرير الأخير للبنك الدولي. وعليه، حتّى لو استفاد أكثر المحصيين فقراً من دعم مباشر على الخبز، فإنّ أكثرية المواطنين ستبقى متضررة، ولن يحقّق الدعم العدالة المطلوبة. "وهذا ما يتطلّب معالجة سريعة وفاعلة من قبل الوزارات والإدارات المعنية من اقتصاد وشؤون اجتماعية وبلديات من أجل إحصاء المحتاجين وتوفير سبل الحماية لهم"، يقول رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، "خصوصاً في ظلّ فقدان الأمن الغذائي، وفوضى التسعير، والغموض الذي يكتنف مصير برامج المساعدات مع الجهات الدولية، ومنها قرض القمح والمساعدة الاجتماعية من البنك الدولي".
كما في السياسة، فإنّ "اليوم التالي" لرفع الدعم عن ربطة الخبز يثير الهواجس المعيشية والاجتماعية نظراً لاكتناف المرحلة اللاحقة بالكثير من الغموض. فالدعم الذي جرّ كلّ أنواع الويلات على الاقتصاد، بدءاً بدعم الليرة في العام 1998، وصولاً إلى دعم السلع والخدمات في بداية الانهيار، كان يجب أن يتوقّف سريعاً، والانتقال إلى تعزيز المنافسة وتكبير حجم الاقتصاد وتعزيز السياسات الاجتماعية، وهي الأدوات التي تكفل للأفراد تأمين حاجاتهم بكرامة بدلاً من الاستعطاء على أبواب الدول الخارجية وقصور الزعماء.