استطاعت الصناعة اللبنانية أن تحقّق في السنوات الأربع "العجاف" الأخيرة، ما عجزت عن تحقيقه طوال عقدين من السنوات "السِمان". فهي لم تحافظ خلال الأزمة الاقتصادية على بنيانها المادي والمعنوي فحسب، بل راكمت المزيد من الطبقات الكمّية والنوعية. ولو قُدّر لأركان السلطة تنفيذ الإصلاحات البنيوية سريعاً عقب الانهيار، لاستفادت الصناعة الوطنية من فرصة تراجع سعر الصرف للتوسّع أفقياً وعمودياً خارجياً، وتحقيق نقلة نوعية على صعيد النموذج الاقتصادي للبلد. ولكن، هذا كله لم يحصل.
خلال السنوات الثلاث الماضية "أعطت وزارة الصناعة نحو 1300 مصنع من كلّ القطاعات تراخيص جديدة"، بحسب بيان سابق لوزير الصناعة في حكومة تصريف الأعمال جورج بوشكيان. "كما أضافت الوزارة ثلاثة قطاعات أساسية إلى الصناعة، فارتفع العدد من 21 قطاعًا إلى 24". والقطاعات الثلاثة هي:
- قطاع إعادة التدوير الذي تحوّل إلى واحد من أهم القطاعات الصناعية، وأسرعها تطوراً. حتّى أنّ لبنان استطاع خلال السنوات الماضية التقدّم على العديد من الدول ذات الباع الطويل في هذا المجال. والأهم أنّ إعادة التدوير تحوّلت إلى ثقافة في المجتمع اللبناني إثر تشجيع من السياسات المتّبعة.
- قطاع البرمجة الذي يتطوّر بسرعة ويقوم على جهود الشابات والشبان اللبنانيين الذين أبدعوا فيه، خاصّة في مجال الذكاء الاصطناعي.
- قطاع الإنتاج السينمائي.
الصناعة الوطنية تثبت قدرتها على قيادة النموّ على المديين المتوسّط والبعيد
الواقع على الأرض يتطابق مع التصريحات، إذ إنّ "حصة البضائع اللبنانية والأدوية على رفوف المتاجر والصيدليات المحلّية ارتفعت في العام 2024 إلى ما بين 65 و70 في المئة، من 25 و30 في المئة قبل العام 2020"، يقول نائب رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين زياد بكداش. وهذا يعود إلى جملة من الأسباب، في مقدّمها تراجع أسعار السلع والأدوية المنتجة محلّياً مقارنة بالسلع المماثلة المستوردة، خصوصاً من بعد رفع قيمة الرسوم الجمركية والتحوّل إلى احتسابها على أساس سعر منصة صيرفة في أيار 2023 (86 ألف ليرة مقابل الدولار). وذلك قبل أن تُلغى منصة صيرفة، وتعود موازنة 2024 وتقرّ باحتساب الرسوم الجمركية على أساس سعر صرف السوق مهما كان هذا السعر. ويضاف إلى هذا العامل المحلي، التضخمُ العالمي وارتفاع أسعار العديد من الصناعات الزراعية، وزيادة تكاليف الشحن البحري إلى المتوسّط نتيجة الأحداث في البحر الأحمر، وارتفاع تكلفة التأمين على الشحنات. ومما أسهم في رفع الطلب على المنتجات المصنّعة محلّياً هو "جودتها العالية وصناعتها المتقنة بحسب المقاييس العالمية"، بحسب بكداش. "ولا سيّما في ما يتعلّق بالصناعات الغذائية والدوائية والتجميلية ومواد التنظيف والتعقيم. فزادت أعداد المصانع من جهة، وجرى رفع القدرات الإنتاجية للمصانع القائمة من جهة ثانية لتلبية الطلب المتزايد". وعادت الصناعة الوطنية "المحرّك الأساسي للنموّ بعدما تقدم عليها خلال سنوات عدة الاقتصاد الريعي وقطاع الخدمات". فانكفأت السياحة وتحوّلت إلى "هبّات" موسمية ظرفية، يغذّيها المغتربون اللبنانيون مع فقدان بارز للسياح. وعلى عكس القطاع الصناعي، لم يستطع القطاع السياحي تحقيق النمو المنشود في ظلّ الظروف السياسية والأمنية والإدارية وترهّل الخدمات. وعجز بعد جائحة كورونا عن لعب دوره الرائد في قيادة الاقتصاد. وهذا ما لم تواجهه الصناعة التي أثبتت عن قدرة على قيادة النمو على المدى البعيد، برغم الصعاب والتحديات.
كلّما ارتفعت مساهمة الصناعة بالناتج تحوّل الاقتصاد في لبنان من ريعي إلى انتاجي، كيلا نقول صناعي.
الازدهار محلّياً للصناعة الوطنية، قابله انكفاء خارجي يستدلّ عليه بسهولة من خلال تراجع أرقام الصادرات الصناعية، وهذا يعود، بحسب بكداش، إلى مجموعة من الأسباب، منها:
- استمرار إقفال أبواب العديد من وجهات التصدير الكبيرة والرئيسة في وجه البضائع والمنتجات اللبنانية. فمنذ نيسان 2021، تمتنع المملكة العربية السعودية عن الاستيراد من لبنان، وتمنع البضائع ذات المصدر اللبناني من المرور بأراضيها نحو وجهات خليجية. وذلك نتيجة استخدام المنتجات اللبنانية لتهريب المخدرات إلى أراضي المملكة، وفشل لبنان طوال السنوات الماضية في إيجاد حلّ عملي لهذه المشكلة. الأمر الذي مثّل ضربة قاصمة للصناعة اللبنانية التي كانت تعتزم رفع رقم صادراتها إلى السعودية من 250 مليون دولار في العام 2019 إلى 400 مليون بعد انخفاض قيمة العملة وتحسين القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية.
- عجز المنتجات المصنّعة محلّياً عن استعادة أرقام التصدير إلى الدول المحظورة مثل السعودية والبحرين حتّى في حال فكّ الحظر. وذلك بسبب حلول المنتجات التركية والصينية مكان اللبنانية في هذه الأسواق. وأغلب الظنّ أن يصل مقدار التصدير إلى السعودية إلى 150 مليون دولار في حال عودة الأمور إلى مجاريها الطبيعية سريعاً.
- صعوبة الاستحصال على تأشيرات دخول من لبنان إلى الإمارات العربية المتحدة والكويت، وهذا إشارة إلى العجز عن استقطاب المزيد من الزبائن وإقامة العلاقات التجارية.
- تراجع الطلب على المنتجات اللبنانية في الدول الأوروبية والأميركية نتيجة الانكماش الاقتصادي.
الأرقام لا تعبّر بدقّة عن الواقع
أرقام الصادرات الصناعية التي تراجعت نتيجة هذه الأسباب إلى ما بين 2.5 و2.7 مليار دولار سنوياً، لا تعبّر، بحسب بكداش، عن الحجم الحقيقي أو الرقم الدقيق. فعدا كونها "وجهة نظر"، فإنّ "عدم التصريح بشكل كلّي أو صريح عن البضائع المصدّرة إلى الخارج، يُفقد القدرة على إعطاء رقم دقيق للصادرات الصناعية من جهة، ونسبة مساهمة الإنتاج الصناعي في الناتج المحلّي الإجمالي. وهذا ما يمكن أن يستدلّ عليه من مقارنة أرقام الصادرات بأرقام استيراد الخارج من لبنان. فخلال الفترة الزمنية الماضية بلغ الفرق في الأرقام بين لبنان والدول الأوروبية ثلاثة أضعاف، إذ تبيّن أن هذه الدول استوردت بقيمة 600 مليون دولار من لبنان، في حين أنّ الرقم المصرّح به محلّياً كان 200 مليون دولار. هذا الأمر يحصل، بحسب بكداش، نتيجة "سيطرة الاقتصاد الأسود والمعاملات النقدية بعيداً عن أيّ رقابة فعلية. فمن الممكن، على سبيل الذكر لا الحصر، وضع ثوب لمصمّم مشهور بقيمة 100 ألف دولار في الشنطة وإخراجه من دون التصريح بأنّه معدّ للتصدير، وليس للاستعمال الشخصي، والأمر نفسه ينسحب على تجّار المجوهرات وغيرها العديد من الطرائق والأساليب التي تحول دون إمكانية تتبّع الصادرات ومعرفة رقمها بدقة".
حتّى الأمس القريب، ظلّت مساهمة الصناعة في الناتج المحلّي الإجمالي لا تتجاوز 12 في المئة في أحسن الأحوال، وكان الرقم يقدّر، بحسب المؤسسة العامّة لتشجيع الاستثمار (إيدال)، بنحو 7.5 في المئة. ومن البديهي أنّه كلّما ارتفعت مساهمة الصناعة بالناتج تحوّل الاقتصاد في لبنان من ريعي إلى انتاجي، كيلا نقول صناعي. وبحسب آخر الأرقام التي أعلن عنها وزير الصناعة، فإنّ مساهمة القطاع هي بين 37 و41 في المئة من الناتج. وافتراضاً أنّ الناتج هو 21.5 مليار دولار بحسب أرقام البنك الدولي، فهذا يعني أنّ حجم الصناعة 9 مليارات دولار. وهو رقم كبير إذا كان محتسباً على أساس الاقتصاد الشرعي الذي يصرّح عن أرقامه. أمّا إذا كان التقدير يشمل الاقتصاد الأسود بين غير شرعي ومن لا يصرّح بشكل دقيق عن الأرقام، فإنّ رقم مساهمة الصناعة يهبط إلى النصف تقريباً. ذلك أنّ "الاقتصاد" الأسود يسيطر على أكثر من 50 في المئة من الاقتصاد.