باستثناء استقرار سعر الصرف الذي انعكس تراجعاً نسبياً في التضخّم، فإنّ أغلبية المؤشّرات الكلّية والجزئية للاقتصاد تسجّل تراجعاً ملحوظاً.

"نسيان" الإصلاحات البنيوية، ولا سيّما على الصعيدين المالي والنقدي، و"هجرة" العمالة والأعمال نحو الاقتصاد الأسود، واستمرار الصراع على الحدود الجنوبية، وتعمّق الاقتصاد النقدي، و"تبخّر" الآمال باستخراج النفط والغاز... هذه جميعها عوامل لم تقوّض إمكان العودة إلى النموّ المنشود فحسب، إنّما تهدّد بالانكماش – النمو السلبي، مع ما يعنيه ذلك من تطلّب العودة إلى معدّلات ما قبل الانهيار عشرات السنوات.

التدهور في "مؤشّر مديري المشتريات"

بعدما لامس "مؤشّر مديري المشتريات" (PMI) لبنك لبنان والمهجر "بلوم" مطلع العام, الرقم 50، وهو العتبة الفاصلة التي يبدأ من بعدها التوسّع في النشاط الاقتصادي، انخفض الرقم إلى 47.8 في حزيران الماضي انخفاضاً إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على تباطؤ الاقتصاد وفتور شهية المستثمرين على توظيف الأموال والتوسّع في الأعمال. وأعاد مؤشر "بلوم" سبب التراجع إلى "انخفاض الإنتاج والطلبات الجديدة. إذ إنّ انخفاض القوّة الشرائية لمعظم المواطنين اللبنانيين وحالة عدم اليقين الاقتصادي والأمني​​يؤثّران سلباً على الإنفاق والأنشطة التجارية الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، تؤثّر الاضطرابات الإقليمية والاضطرابات في البحر الأحمر على طلبات التصدير الجديدة للشهر الحادي عشر على التوالي". وقد كشف آخر استطلاع لـ"مؤشّر مديري المشتريات" أيضاً عن "أعلى مستوى من التشاؤم بشأن الأشهر الـ 12 المقبلة، إذ من المرجّح أن تظلّ التوتّرات على طول الحدود الجنوبية مرتفعة في المستقبل القريب". وقد لحظ المؤشّر "استقرار التوظيف في القطاع الخاص، تماشياً مع الاتجاه منذ أوائل عام 2023". وهذا مؤشّر إيجابي قد لا يستمرّ طويلاً في حال استمرار التدهور الاقتصادي وعودة المؤسسات إلى الإقفال أو التحجيم.

مؤشّرات اقتصادية سلبية

التراجع في "مؤشّر مديري المشتريات" تزامن مع انخفاض العدد التراكمي للمسافرين في مطار بيروت الدولي بنسبة 6.7 في المئة سنوياً ليصل إلى حوالى مليونين و292 مسافراً حتّى أيار الماضي. وذلك مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي. في حين تراجع الفائض في ميزان المدفوعات بشكل كبير، إذ من بعد تحقيق فائض بقيمة قاربت المليار و237 مليون دولار في الأشهر الأربعة الأولى من العام الماضي، سجّل إلى نيسان من العام الجاري فائضاً بقيمة 585 مليون دولار فقط. ولعلّ المؤشّر الأبرز إلى العجز عن ضبط الاقتصاد النقدي، تمثّل في إصدار 8790 شيكاً من حسابات جديدة تبعاً للتعميم 165، منها 5840 شيكاً بالدولار بقيمة 79.6 مليون دولار. وذلك مقارنةً بإصدار 92687 شيكاً حتى أيار 2024 من الحسابات القديمة. وكان العدد الأخير قد شهد، وفقاً للبيانات التي نشرتها جمعية المصارف، انخفاضاً كبيراً من 232 ألف شيك في الفترة المماثلة من العام الماضي.

القطاع التجاري الأكثر تضرراً

التراجع في النشاط الاقتصادي عامّة، والتجاري خاصة، "بدأ مع مطلع الحرب في تشرين الأول 2023"، يقول رئيس تجمّع الشركات اللبنانية الدكتور باسم البواب. "وكان الشهر الأخير من العام الماضي نقطة التحوّل الرئيسة، إذ تراجعت أعداد السياح والمغتربين القادمين لتمضية فترة الأعياد بنسبة كبيرة جداً قياساً إلى التوقّعات الإيجابية التي كانت سائدة". وبدلاً من انتظار تحقيق لبنان فورة سياحية مرموقة، أُخرج أسطول طائرات الشرق الأوسط خوفاً من تعرّض المطار لضربة جوية، وأحجمت بضع ناقلات عن الطيران فوق شرق المتوسط، وتوقّفت رحلات وألغيت حجوزات. "ومع تبيان المسار الطويل للحرب بداية العام الجاري، واستشراف أبعادها وإمكان انحسارها فترة طويلة ضمن ما يعرف بـ "قواعد الاشتباك" تحسنت الأمور في كانون الثاني من العام الجاري بشكل ملحوظ"، بحسب البواب. "إلّا أنّ فترة الانتعاش لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما أخذ الوضع في التدهور، وهذا ما دلّ عليه بشكل واضح عدم استفادة القطاعات السياحية والتجارية والخدماتية من مناسبتي الفصح والأضحى، الاستفادة المفترضة. وهما المناسبتان اللتان يعوّل عليهما في استقطاب السياح والمغتربين وإنفاق الأموال وتحريك العجلة الاقتصادية".

الأسعار ترتفع باطراد

خلافاً للقطاع السياحي الذي يعتمد بشكل أساسي على السياح والمغتربين، فإنّ القطاع التجاري يتّكل على المستهلكين المحلّيين. ونتيجة تدهور القدرة الشرائية لأجور اللبنانيين والمقيمين، وارتفاع معدّلات الفقر، والحدّ من الإنفاق خشية تطور الحرب، "كان القطاع التجاري المتضرّر الأكبر"، برأي البواب. "وممّا فاقم الوضع سوءاً، ارتفاع الأسعار في العام 2024 إلى معدلات كبيرة فاقت ما كانت عليه قبل الانهيار بسبب زيادة التكاليف، خصوصاً على الطاقة والضرائب والرسوم، والتضخّم العالمي. فأصبحت أسعار الكثير من السلع في لبنان مرتفعة جداً، تفوق مثيلاتها في أوروبا وبعض الدول المحيطة كتركيا والأردن ومصر". ويعتقد البواب أنّ "نهاية العام ستحمل خسائر كبيرة على جميع القطاعات التجارية لو استمر الوضع على هذه الحال. وسيأتي قطاع الكماليات في مقدمة القطاعات المتضررة، يتبعه قطاع الملابس والأحذية، وسينأى قطاع المأكل والمشرب عن التراجع بفعل إقبال اللبنانيين والمقيمين عليه على نحو كبير".

التضخم يتراجع إلى أدنى مستوى له على الإطلاق

على الرّغم من تراجع التضخّم إلى أدني مستوى له منذ العام 2020، فما زال مرتفعاً. وقد سجل في أيار الماضي 51.5 في المئة، بحسب إدارة الإحصاء المركزي، على الرغم من استقرار سعر الصرف فترة طويلة عند 89500 ليرة مقابل الدولار. ويعود السبب الكامن وراء استمرار ارتفاع معدّلات التضخم إلى ارتفاع تكاليف الإيجار "على المالك" بنسبة 72.39 في المئة على أساس سنوي، يتبعه ارتفاع أسعار "المياه والكهرباء والغاز وأنواع الوقود الأخرى" بنسبة 55.18 في المئة على أساس سنوي. واللافت أنّ التضخّم استمر في الارتفاع بمعدّلات شهرية حتى بلغ التغيّر الشهري بين نيسان وأيار 2024 حوالى 0.02 في المئة.

لعل أخطر ما يواجه الاقتصاد اللبناني لا يتمثّل في التحدّيات المالية والنقدية والاقتصادية التي تواجهه، إنّما في حالة اللايقين. هذه الحالة التي يضع لها صندوق النقد الدولي مؤشّراً رقمياً خاصاّ (مؤشّر عدم اليقين العالمي) وتعتبر المؤثّر الأول في فرملة الإنفاق وإبعاد الاستثمارات والقيام بأيّ مشاريع اقتصادية أو تنموية.