أوجب "الزلزال" الاقتصادي الذي ضرب لبنان خريف 2019 انطلاقاً من "صدع" مصرف لبنان المركزي، إعادة النظر في قانون النّقد والتسليف بوصفه الركيزة الأساسية للجهاز المصرفي والمالي. فهذا القانون الصادر في الأول من آب 1963، والذي كان "حبّة الكرز" على "قالب حلوى" الإصلاح الشهابي لم يرعَ تنظيم النّقد كما ينصّ دوره. ولم يضبط دور المصرف المركزي، وحاكمه. والأهمّ أنّه أرسى علاقة مشوّهة بين الحاكم الذي تحوّل إلى حاكم بأمره، والمصارف التجارية، خلافاً لما تقتضيه أنظمة عمل المصارف المركزية العصرية.

لكلّ هذه الأسباب، شكّلت الحكومة قبل نحو عام لجنة متخصّصة لتعديل قانون النقد والتسليف. تألّفت اللجنة من أسماء مشهود لها بالنزاهة والخبرة والمناقبية العلمية والعملية، وضمّت الوزراء السابقين ابراهيم نجار وشكيب قرطباوي ونقولا نحاس، والقاضية رنا عاكوم، والمحامي البروفيسور نصري دياب، والنائب السابق لحاكم مصرف لبنان غسان عياش والخبيرين عبد الحفيظ منصور، وحسن صالح. وقد أنجزت "اللجنة" مهمّتها وسلّمت إلى الحكومة مسودّة التعديلات تمهيداً لرفعها في مشروع قانون لمجلس النواب من أجل التصويت عليها وإقرارها.

التعديل الأول الأساسي

أهمّية ما جرى أنّه يمثّل التعديل الأساسي الأول على القانون منذ إقراره قبل 61 عاماً. "وقد شمل بشكل أساسي كلّ ما له علاقة بحوكمة المركزي بناء على مضمون تقارير "الفاريز اند مارسال" و"اوليفر وايمان" و"كي بي ام جي"، وأحدث القوانين العالمية ذات الصلة وتوصيات صندوق النقد"، بحسب عضو اللجنة المحامي البروفيسور نصري دياب. وأهمّ التعديلات تتعلق بـ كيفية:

- رسم سياسات مصرف لبنان واتخاذ القرارات مع الحرص على الشفافية.

- تنفيذ القرارات التي تفعّل دور المجلس المركزي.

- المراقبة الداخلية والخارجية من خلال إنشاء هيئات ولجان جديدة ضمن مصرف لبنان لمراقبة عمل أجهزة المركزي وحوكمته.

وشدد عضو اللجنة البروفيسور نصري دياب على أنّ "التعديلات لم تمسّ صلاحيات الحاكم ولا الجزء المتعلّق بالمصارف التجارية". أمّا في ما خصّ بعض المواد الإشكالية، ومنها مثلاً المادة 113 التي تنصّ على أنّه إذا كانت نتيجة سنة من السنين عجزاً، تُغطّى الخسارة من الاحتياطي العام، فلفت البروفيسور دياب إلى أنّ "التعديلات لم تشمل أيّاً من البنود التي تتعلّق بمصير الودائع. فهذه المسائل مرتبطة بمشاريع إعادة هيكلة المصارف وإنجاز القوانين الإصلاحية التي خرجت عن مهمّة اللجنة".

لا مسّ بصلاحيات الحاكم

إذاً، استعاضت "اللجنة" عن المسّ بصلاحيات الحاكم الواسعة بـ "توجيه من الحكومة، ومنعاً لإثارة حساسيات طائفية وسياسية في ظلّ الفراغ الرئاسي"، بحسب مقال للنائب السابق للحاكم غسان عياش، بـ "تعزيز الحوكمة وإنشاء هيئات جديدة للرقابة والتدقيق مستقلّة كلّياً عن الحاكم". وذلك على غرار اقتراح "لجنة السياسة النقدية"، و"هيئة التدقيق المستقلّة" المسؤولة عن التدقيق بقرارات المصرف المركزي وبياناته المالية، كما يدلّ اسمها، والتنسيق مع مفوّض الحكومة ورفع التقارير إلى مجلس الوزراء.

تحديد صلاحيات المصارف المركزية وحكّامها هو المنطلق الأساسي للحدّ من نشوب الأزمات

صلاحيات الحاكم وعلاقة المركزيّ بالمصارف

التعديلات على أهمّيتها، خصوصاً في ما يتعلّق برفع منسوب الحوكمة، "لم تمسّ المسببين الأساسيين للانهيار، وهما "صلاحيات الحاكم الواسعة، وعلاقة المصرف المركزي بالمصارف التجارية"، برأي الاستاذ المحاضر في قوانين البنوك المركزية والنقد والتسليف، توفيق شمبور. وما دام هذان الفتيلان باقيين، فهما معرّضان للاشتعال في أيّ لحظة، وتفجير جميع المنجزات. إذ ينبغي، بحسب شمبور "الفصل كليّاً بين عمل المصارف التجارية والمصرف المركزي. فدور الأخير ليس "أم" المصارف كما يعتقد البعض، إنّما هو المسؤول عن وضع السياسة النقدية وحماية العملة وصون الاستقرار النقدي في البلاد". وحتى إتاحة التعديلات الجديدة فتح حسابات جارية للمصارف بالعملة الأجنبية بنسبة لا تتجاوز 5 في المئة من أموالها الخاصة، تعتبر غير كافية لحماية المصارف والمودعين، برأي شمبور "لأن فلسفة الإيداع بالعملة الأجنبية هي فقدان المواطن الثقة بدولته. وما دام انعدام الثقة موجوداً يجب وضع حسابات العملة الأجنبية في المصارف المراسلة في الخارج وليس في مصرف لبنان. وذلك منعاً لتكرار تسلّط المركزي على المصارف وإلزامها بوضع ودائعها لديه كما حصل في الحقبة الماضية، وهذا ما أدّى إلى الانهيار. ولولا سلطته لما استطاع مصرف لبنان التسلّط على المصارف والتطاول على أموال المودعين".

أمّا في ما خصّ صلاحيات الحاكم، التي لم تُمسّ، كرئيس الهيئة المصرفية العليا، وهيئة التحقيق الخاصّة، ورئيس هيئة الأسواق المالية، والمسؤول بشكل أو بآخر عن قرارات لجنة الرقابة المصرفية... فهي السبب الثاني المباشر للانهيار. إذ يجمع الحاكم بين يديه السلطة النقدية التنفيذية والرقابية والقضائية والتقريرية، خلافاً لكلّ الأصول والتجارب الدولية. فهيئة الرقابة على الأسواق المالية في سويسرا (Finma) مثلاً هي التي تحقّق في المخالفات المصرفية وتفرض العقوبات، وهي التي ترعى الأمور المصرفية بعيداً عن تدخّل المصرف المركزي السويسري. وعلى هذا المنوال، يجب أن يكون الوضع في لبنان. فصلاحيات المصارف المركزية ينبغي أن تكون محصورة بالسياسة النقدية ومعالجة التضخم واستقرار النّقد ومعدّلات البطالة وليس تنظيم عمل المصارف التجارية الذي يجب أن يُربط بلجنة الرقابة التي تتضمّن هيئة التحقيق الخاصة.

من الملاحظات على التعديلات أيضاً، لفت شمبور إلى ضرورة تبديل مصطلح "تثبيت" في "حساب تثبيت سعر القطع" باستقرار سعر القطع، إذ لا شيء يسمّى تثبيت القطع. وفي حين يفرض قانون النقد والتسليف أن يكون هذا الحساب مستقلّاً، دمجه الحاكم السابق بحساب إعادة التقييم من أجل التمويه. وهذا يعود بنا إلى أهميّة وجود لجان وهيئات مستقلّة قادرة على وضع حدّ للتجاوزات التي يفرضها الحاكم في مصرف لبنان نتيجة الصلاحيات الواسعة المعطاة له.

تشير التجارب العالمية إلى أنّ تحديد صلاحيات المصارف المركزية وحكّامها هو المنطلق الأساسي للحدّ من نشوب الأزمات، ولا سيّما النقدية والمصرفية. ولعلّ الأهمّ فصل السلطة التقريرية عن التنفيذية والسلطة الرقابية في المصرف المركزي. فجمع هذه السلطات في يد واحدة كفيل بإحداث الفوضى عاجلاً أم آجلاً.