منذ صيف 2022، تاريخ رفع الإجراءات الاحترازية والوقائية المتعلّقة بمكافحة جائحة كورونا (COVID-19)، إلى اليوم، ينهمك اللبنانيون وكلّ من يزور بلاد الأرز بالجواب عن سؤال استهجاني: أين هي مظاهر الانهيار الاقتصادي؟
"الحكي" عن مجاعة تدقّ الأبواب ونسب فقر تتجاور 40 في المئة، وبطالة تلتهم ثلث القوى العاملة، وتبخّر 80 مليار دولار من الثروات في المصارف... لا يماثل مشهد "زحمة" السيارات الرياضية والدفع الرباعي على الطرق، وامتلاء المطاعم، و"نغل" المجمّعات التجارية بالمستهلكين، واصطفاف المحالّ مثل "المحاشي" في الأسواق التجارية، وعودة الإنفاق على السلع الفاخرة من كافيار وسيغار وذهب ومجوهرات. وقد تحوّل هذا التناقض إلى مادّة إعلامية دسمة تملأ الشاشات المحلّية وفضاءات المنصّات الأجنبية، كما استحال "تمريناً ذهنياً" لمعشر الاقتصاديين. فما هي حقيقته؟ وهل انتهت الأزمة الاقتصادية فعلياً، مع قليل من "الأضرار الجانبية"؟!
مصادر الدّخل
الإسراف في الإنفاق، بغضّ النظر على ماذا، يحتاج إلى دخل كبير. ومن هنا يبدأ البحث عن مصادر المداخيل في اقتصاد فقدت عملته الوطنية 98 في المئة من قيمتها، وتراجع ناتجه المحلّي بنسبة 64 في المئة، وانقطع عن الاقتراض من السوقين المحلّيّة والخارجية، وتدمّرت نصف مدينته بانفجار المرفأ، ويخوض حرباً ضروساً منذ تشرين الأول 2023 على حدوده الجنوبية.
المصدر الأول للدّخل هو تحويلات المغتربين، التي تبلغ حوالى 6.5 مليار دولار سنوياً بحسب الأرقام الرسمية. ويرتفع هذا الرقم إلى أكثر من 10 مليارات دولار، لو أُخذت في الاعتبار المبالغ النقدية التي يحملها اللبنانيون عند زيارتهم لبنان، والتي لا تدخل في الحسابات الرسمية.
الثاني، المساعدات الدولية بقيمة تراوح سنويا بين 1 و1.5 مليار دولار. وقد بلغت في العام 2023 حوالى المليار و350 مليون دولار بحسب ملخّص الأمم المتحدة لتتبّع المساعدات إلى لبنان. وتعتبر هذه المبالغ مساعدات تهدف إلى تغذية الاستهلاك.
الثالث، القروض الدولية، ومنها: قروض البنك الدولي لبرنامج "أمان" بقيمة 546 مليون دولار (صرف 246 مليون دولار في اتفاقية القرض الأولى، وما زال مبلغ 300 مليون دولار معلّقاً رغم إقرار اتفاقية القرض الثانية). قرض القمح من البنك الدولي أيضاً: "مشروع الاستجابة الطارئة لتأمين إمدادات القمح في لبنان"، بقيمة 150 مليون دولار.
الرابع منصّة صيرفة، حيث أمّنت في عام وثمانية أشهر (من كانون الأول 2021 إلى آب 2023) مداخيل بقيمة 3 مليار ات و226 مليون دولار، استفاد منها، بالإضافة إلى موظّفي القطاع العام، عدد غير قليل من الأفراد والشركات.
الخامس، توفير شريحة واسعة من اللبنانيين في الفترة الممتدة من أيلول 2019 إلى كانون الأول 2023، ما لا يقلّ عن 22 مليار دولار جرّاء تسديد 30 ملياراً و734 مليون دولار من القروض المصرفية بالعملة الأجنبية على سعر صرف تراوح بين 1500 ليرة و8000 ليرة، في حين أنّ سعر السوق وصل إلى 140 ألف ليرة. فقد أمّنت هذه الآلية مداخيل بقيمة نحو 22 مليار دولار للأفراد والشركات. وقد استفاد منها بشكل أساسي من كان يملك مصدر دخل بالدولار.
السادس، الدعم بتكلفة سنوية قدّرت بنحو "3 مليار و400 مليون دولار سنوياً"، بحسب المعهد اللبناني للدراسات، وقد تجاوز 10 مليارات دولار على امتداد مراحلها من العام 2019 إلى العام 2022. وقد أمّنت هذه الآلية مداخيل للأفراد والأسر (بشكل نسبي وغير عادل)، من خلال الوفر في الإنفاق على المحروقات والسلع الغذائية بسعر الصرف الرسمي 1500 ليرة، بدلاً من سعر السوق الذي كان يرتفع باطراد.
السابع، تهريب الأموال من المصارف وخصوصاً في الفترة الممتدّة من صيف 2019 إلى منتصف 2020، إذ قدّرت المبالغ المهرّبة بأكثر من 10 مليارات دولار، وقد استمرّت هذه العملية بشكل استنسابي إلى اليوم.
الدخل الإضافي المتولّد للأفراد والاسر
حسبة بسيطة تبيّن أنّ ما دخل إلى لبنان سنوياً بين بداية الانهيار حتّى الأمس القريب تراوح بين 20 مليار دولار حدّاً أدنى و26 مليار دولار حدّاً أقصى. وإذا وزّعنا هذا المبلغ على 4 ملايين لبناني يكون نصيب الفرد حوالى 6000 دولار سنوياً أو ما يعادل 550 دولاراً شهرياً. وإذا جمع هذا الرقم مع ما يتقاضاه الموظّفون والأجراء، فقد يصل الدخل الشهري إلى 1000 دولار. وهذا رقم ليس بقليل على الإطلاق.
يمكن الاستنتاج أنّ هناك حوالى 10 في المئة من اللبنانيين هم الذين يستولدون هذه الصورة عن تخطّي الانهيار
التوزيع غير العادل للمداخيل
مشكلة عملية الاحتساب هذه، أنّها نظرية وليست عملية. فعلى أرض الواقع، حفلت هذه المرحلة بأسوأ توزيع للمداخيل، وأكثره تهميشاً للعدالة الاجتماعية. فدعم المحروقات مثلاً استفاد منه أصحاب الدخل المرتفع، بحسب "مذكّرة إصلاح الدعم" الصادرة عن البنك الدولي في عام 2020، إذ يمتلك حوالى 80 في المئة من أصحاب الدخل المرتفع سيارات مقابل أقلّ من 25 في المئة في صفوف أكثر الفئات السكّانية فقراً. وخلص تقييم البنك الدولي إلى أنّ حوالى 55 في المئة من الدعم المتعلّق بالطاقة يذهب إلى 20 في المئة هم أكثر السكّان ثراءً. والأمر نفسه ينسحب على بقيّة القطاعات التي أظهرت تشوهات مماثلة.
أمّا على صعيد تسديد القروض المصرفية بربع قيمتها الفعلية، فقد استفاد منها أصحاب القروض الكبيرة والشركات بشكل أساسي. "وقد استولدت هذه الآلية وحدها، طبقة جديدة من الأثرياء في فترة زمنية قياسية"، يقول المستشار المالي ميشال قزح. وليس في الأمر مبالغة "إذ إنّ تسديد مستثمر 5 ملايين دولار بمليون واحد، أمّن له 4 ملايين دولار نقداً، وهذا العائد يفوق ما قد يجنيه من استثماره على مدى عشرات السنوات. وعليه، فإنّ من استمر عمله، تحوّلت مستحقات قروضه والفوائد عليها إلى أرباح سنوية".
ما جرى على صعيد تسديد القروض، ينسحب أيضاً على التربح من صيرفة، التي استفاد منها بشكل كبير جداً، الأشخاص الأنفسهم الذين هم من أصحاب الشركات والمستثمرين الذين سدّدوا القروض على أسعار غير حقيقية. فنتيجة فتح سقوف التحويل، كانت هذه الفئة أكثر الفئات قدرة على بيع الليرات التي في حوزتها أو التي ابتاعتها من السوق لشراء الدولار على سعر مدعوم من المنصة.
كذلك ينسحب الأمر نفسه على القلّة القليلة المحظية التي هرّبت مئات ملايين الدولارات من الودائع إلى الخارج، للتمتّع بعوائدها النقدية صرفاً وتبذيراً.
"وعليه يمكن الجزم أنّ نسبة الذين استفادوا من كلّ هذه المداخيل في الفترة الماضية لا تتجاوز 2 في المئة من اللبنانيين"، بحسب قزح، يشكلّون قرابة 100 ألف شخص. وإذا ما جمعنا هذا العدد مع الذين يعملون في الاقتصاد الأسود تهريباً وتهرّباً من التصريح لسداد الرسوم والضرائب، وأولئك الذين يعملون عن بعد للخارج، أو مع الشركات والمنظمات الدولية أو الشركات المحليّة الكبيرة، ويتقاضون رواتب عالية بالدولار النقدي، ولو بقدرات صرف أقلّ... يمكن الاستنتاج أنّ هناك حوالى 10 في المئة من اللبنانيين هم الذين يستولدون هذه الصورة عن تخطّي الانهيار، خصوصاً مع صغر مساحة البلد وحصر أماكن الصرف في نقاط محدّدة في العاصمة أو في الأطراف. فنرى المظاهر الأكثر من طبيعية، في الجمّيزة والزيتونة والمولات وكفردبيان والبترون والجية… . فماذا عن بقيّة لبنان واللبنانيين؟