بدأت أرمينيا تشهد تطورات اجتماعية وسياسية جديدة نتيجة الهزيمة الأخيرة التي تلقّتها الصيف الماضي على يد أذربيجان، والتي أدّت إلى خسارتها إقليم آرتساخ أو ناغورنو كاراباخ وتهجير سكّانه الأرمن البالغ عددهم نحو مئة وعشرين ألفاً. وقد حمّل غالبية الأرمن رئيس الوزراء نيكول باشينيان مسؤولية هذه الهزيمة الثقيلة التي تعرّضت لها أرمينيا، والتي كان العامل الأساسي فيها هو انقلاب باشينيان على الحليف الروسي الداعم التقليدي لأرمينيا ونقله ليريفان إلى كنف الرعاية الأميركية والأوروبية، وهذا ما جعل أرمينيا تقف وحيدة في مواجهة أذربيجان المدعومة من تركيا. علماً أنّ سكّان أذربيجان يبلغون أكثر من عشرة ملايين في مقابل نحو ثلاثة ملايين أرمني يعيشون في أرمينيا محاصرين من الغرب بأكثر من 80 مليون تركي، وهم من القومية نفسها التي ينبثق منها الآذريون. هذا ما أدّى إلى صعود حركة احتجاج منظمة ضد باشينيان، خصوصاً بعدما تنازل عن عدد من القرى الأرمنية الإضافية في محاولة منه لكسب رضى أذربيجان وتركيا اللتين يطمح إلى الدخول معهما في شراكة برعاية غربية للوصول إلى نفط وسط آسيا. 

هذا كلّه أدّى إلى بروز دينامية اجتماعية وسياسية جديدة تتميز بتغير الوعي العام المرتبط بظهور قوّة سياسية جديدة تسمى "تافوش باسم الوطن الأم". هذه الحركة، التي نظّمها بشكل عفوي سكّان الأراضي التي تنازل عنها نيكول باشينيان لباكو كضمان لعدم اعتداء أذربيجان على أرمينيا، استوعبت جميع إمكانات الاحتجاج للمجتمع المدني في الجمهورية. وسرعان ما أصبح زعيم الحركة، الكاهن باغرات جالستانيان، قائداً لتيار استطاع تأسيس حزب سياسي مسيحي تمكّن من توحيد المنظمات المعارضة لنيكول باشينيان، وبدأ يطالب بعزل رئيس الوزراء الأرميني. 

ومع الأخذ في الاعتبار أنّ ثلثي برلمان الجمهورية الأرمنية موالون للحكومة، فإنّ الحركة ترى أنّ لا أمل في تحقيق أهدافها بالوسائل السلمية. لذا بدأت المعارضة الوطنية غير البرلمانية الممثلة في حزب جبهة عموم الأرمن بقيادة الأب باغرات البحث عن طرق أخرى لإطاحة نيكول باشينيان. ووضعت على جدول أعمالها "تنظيم محكمة عامة للفخر الوطني ضد الخائن" أي باشينيان. وتعتبر المعارضة أنّ باشينيان خالف إرادة الأمة الأرمنية، وهذا ما يوجب محاكمته وإدانته ليس من قبل أرمن أرمينيا فحسب، بل أيضاً من قبل أرمن المهحر الذين تفوق أعدادهم البالغة 13 مليوناً أعداد الأرمن الذين يعيشون في أرمينيا أضعافاً مضاعفة. وتهدف المحكمة إلى "حرمان رئيس الوزراء من الشرعية السياسية ومن حقّ تقرير مصير البلاد والأمة".

وتعتبر الحركة أنّ الشتات الأرمني لعب دائماً دور الوصي على المصالح الأرمنية لضمان عدم تجاوز حكّام أرمينيا الخطوط العريضة المحدّدة للمصلحة الأرمنية الوطنية والقومية. وتعتزم الحركة التي يقودها الأب باغرات استغلال مناسبة تنظيم باشينيان لقمّة أرمن الشتات بين 17 أيلول المقبل و20 منه تحت عنوان "القمّة العالمية الأرمنية الثانية" لتحويل القمّة إلى محاكمة علنية لرئيس الوزراء الأرمني. 

ومن المتوقع أن يجذب هذا الحدث 1000 ممثل للمغتربين في أنحاء العالم. وترى الحركة التي يقودها باغرات "أنّه لا ينبغي للخونة أن يقودوا عمل مثل هذه المنتديات،" معتبرة أنّ الجالية الأرمنية في أنحاء العالم مجبرة على الخروج ببرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي موحّد، يقوم على إدانة "نظام باشينيان الخائن لمصالح الأرمن." وسيمثّل الأب باغرات صوت الشتات كجزء من المحكمة العامة، التي سينظمها حزب الجبهة الأرمنية باعتباره قوة سياسية جديدة لأرمينيا. 

ولبروز دور رجل دين في الحياة السياسية الأرمنية دلالات قوية من حيث اعتبار أنّ الأمور وصلت في أرمينيا إلى مرحلة دقيقة جداً. فلطالما لعبت الكنيسة الأرمنية دوراً محورياً في حياة الأرمن، لا كممثل روحي لوجدان الأرمن فقط، بل كمحدّد لهويّتهم القومية أيضاً. فقد كانت المملكة الأرمنية أول مملكة تعتمد رسمياً المسيحية ديناً رسمياً لها. وعلى مدى الألف وسبعمئة عام السابقة كان للكنيسة الأرمنية دور محوري في الحفاظ على الهوية القومية للأرمن بعدما خسروا ممالكهم المتعاقبة. وكان هذا الدور جلياً، خصوصاً في ظلّ الدولة العثمانية حين حافظت الكنيسة الأرمنية على الموروث الأرمني من الذوبان في الهوية العثمانية التركية. 

لذا، فإنّ الدور الذي شاءه باغرات لنفسه يعتبر إحياءً لدور الكنيسة الأرمنية القومي في الحفاظ على الهوية الأرمنية. وقد ولد باغرات جالستانيان في غيومري (لينيناكان سابقاً) في أرمينيا في 20 أيار 1971، وأطلق عليه اسم فازجين عند معموديته. وقد التحق بإكليريكية جيفورجيان للكرسي الأم في إتشميادزين المقدسة، حيث حصل على رسامة الشماس في عام 1993 من المطران أنانيا عرباجيان. وفي عام 1995 حصلت أطروحته "مدح ولاهوت خسروف أندزريف حول الصلوات اليومية لكنيستنا" (اي الكنيسة الأرمنية) على علامة ممتازة، وهذا ما جعله يُرسم في العام نفسه كاهناً عازباً من قبل كاثوليكوس عموم الأرمن كاريكين الأول، واعتمد اسم رئيس الأساقفة باغرات فاردزاريان، الذي قتل في عام 1937 على يد السلطات الشيوعية التي تحركت لقمع تمرّد أرمني حين كانت أرمينيا جزءاً من الاتحاد السوفياتي. 

عيّنت حركة "تافوش من أجل الوطن" رئيس الأساقفة باغرات غلاستانيان مرشحاً لها لمنصب رئيس وزراء أرمينيا


باغرات جالستانيان هو المشرف على سلسلته الخاصة "لمعرفة الإنجيل" التي تتألف من خطب أسبوعية وتعليقات على العهد الجديد، بما في ذلك حلقات عديدة من المناظرات والمناقشات حول المواضيع الدينية. ونشر العديد من المقالات في المجالات اللاهوتية والاجتماعية والثقافية المتعلقة بأرمينيا والكنيسة الأرمنية، وهذا ما جعله شخصية مشهورة في صفوف الأرمن، خصوصاً المتديّنين منهم. 

وفي عام 2002، عُيّن الأب باغرات نائباً عاماً لأبرشية أراغاتسوتن في أرمينيا. وقد أسس فرقة رقص وجوقة للأطفال في أوشاكان، وقام بتوسعة مركز التعليم المسيحي وإعادة هيكلته، وأنشأ "مراكز الحوسبة الشبابية". وبذل جهوداً كبيرة لاستعادة ملكية 17 ديراً وكنيسة مع الأراضي المجاورة لها من الحكومة في مناطق أشتاراك وأباران وتالين التي كانت تابعة تاريخياً إلى الكرسي الأم، ولكن السلطات الأرمنية الشيوعية أمّمتها زمن الاتحاد السوفياتي السابق. 

وفي عام 2003 انتخبت الجمعية العامة للأبرشية الكندية جالستانيان رئيساً لأبرشية الكنيسة الأرمنية في كندا. وبعد شهر رفع كاثوليكوس الأرمن كاريكين الثاني باغرات إلى رتبة أسقف في كاتدرائية الكرسي الأم. 

في عام 2015، عُيّن جالستانيان رئيساً لأبرشية تافوش من قبل الكاثوليكوس كاريكين الثاني، وعٌيّن كذلك في المجلس الروحي الأعلى في عام 2017. وفي شباط من عام 2017 عُيّن باغرات رئيساً للأساقفة في الكنيسة الأرمنية. 

وفي الرابع من أيار 2024 بدأ الأب باغرات مسيرة احتجاجية انطلاقاً من تافوش إلى يريفان، وذلك من أجل الاحتجاج على تنازل رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان عن عدد من القرى الأرمنية لاذربيجان. وفي 26 أيار 2024 نظّمت حركة "تافوش من أجل الوطن" التي يقودها جالستانيان مسيرة حاشدة شارك فيها عشرات الآلاف مطالبين باستقالة باشينيان وحكومته. وخلال هذه المسيرة عيّنت حركة "تافوش من أجل الوطن" رئيس الأساقفة باغرات غلاستانيان مرشحاً لها لمنصب رئيس وزراء أرمينيا في الانتخابات المقبلة في مواجهة نيكول باشينيان.