قد لا يكون ما جاء في عظة الأحد خطأ في التعبير، بل كلاماً مقصوداً وموقفاً تعمّد تظهيره البطريرك الراعي ضد حزب الله، وإلّا لكانت بكركي أصدرت بياناً توضيحياً. لكنّ سيد بكركي قصد كل كلمة وردت في العظة "إنّنا نفهم معنى عدم وجود رئيس للجمهوريّة: إنّه رئيس يفاوض بملء الصلاحيّات الدستوريّة، ويطالب مجلس الأمن بتطبيق قراراته ولا سيما القرار 1559 المختصّ بنزع السلاح، والقرار 1680 الخاص بترسيم الحدود مع سوريا، والقرار 1701 الذي يعني تحييد الجنوب. وبعد ذلك يُعنى هذا الرئيس بألّا يعود لبنان منطلقًا لأعمال إرهابيّة تزعزع أمن المنطقة واستقرارها، وبالتالي بدخول لبنان نظام الحياد".
موقف لم يأت بجديد. ليست المرّة الأولى التي يتحدث البطريرك الراعي منتقداً حزب الله على جبهة الإسناد التي يخوضها ضد إسرائيل في الجنوب، كما أنّها ليست المرة الأولى التي يتّهم الثنائي الشيعي بتعطيل استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية. منذ زمن بعيد، يلمس حزب الله، بحسب مصادره، كيف أنّ الراعي يرفض أو يتجنّب تسمية المقاومة بالاِسم، وينزع عنها عملها المقاوم. ومع كلّ خلاف متجدّد كالذي وقع أخيراً بين بكركي والمجلس الشيعي والثنائي، تعود إلى ذاكرة حزب الله يوم ارتفعت أصوات المشاركين في باحة الصرح مردّدين"حزب الله إرهابي" . يومذاك ركّزت التبريرات على أنّ البطريرك حاول ثني المشاركين عن إطلاق الشعارات المعادية للحزب. تجاوز حزب الله القطوع كما تجاوز غيره وأكمل وبكركي الحوار الذي يديره وسطاء من الطرفين.
مرّات عديدة، تجاوز حزب الله أو الثنائي الشيعي معاً مواقف انتقاده على لسان بكركي. سرعان ما كانت تتبدّد الغيوم بفضل تدخّل الوسطاء، إلّا ما ورد أخيراً وتضمّن توصيفاً لعمل حزب الله على أنّه عمليات إرهابية، ومنح ورقة يستفيد منها العدو في حربه على لبنان. أتى ما قاله الراعي بالتزامن مع الدعوة التي وجهها إلى رؤساء الطوائف المسيحية والإسلامية ورؤساء الكتل السياسية للقاء تعقده بكركي على شرف أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين. خلال التشاور انقسمت الآراء داخل "الثنائي" بين داعٍ إلى المقاطعة والناصح بتجاوز الأمر كالعادة. وقعت الحيرة. إذا شارك فسيبدو كأنّه تجاوز ما قيل، وإذا تغيّب سيُفهم الأمر كأنّه موقف مبني على مقاطعة الفاتيكان. إلى أن رست الآراء على المقاطعة. قاطع نائب رئيس "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى" الشيخ علي الخطيب اللقاء، فاستغربت بكركي لكنها لم تعتذر. وعلى سبيل بادرة حسن نية طلبت من المونسنيور عبده أبو كسم الحضور ممثلًا لها في احتفال إطلاق كتاب "الغدير والإمامة" في مقرّ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. حاول أبو كسم معالجة الأمر على طريقته بأن قال أنّ حزب الله لم يكن هو المقصود في العبارة التي قيلت. قبله كانت مصادر بكركي تنقل إلى "الجديد" فحوى توضيح من هذا القبيل. محاولتان لم تفيا بالغرض. بقي الثنائي الشيعي على موقفه معترضاً "هل المطلوب التهجّم ووصف عمل المقاومة بالإرهاب من دون أيّ ردة فعل، وحين نفعل يقولون كيف ننتقد من أُعطي مجد لبنان له"؟
مرّات عديدة، تجاوز حزب الله أو الثنائي الشيعي معاً مواقف انتقاده على لسان بكركي.
لا مكان للتبرير لدى الثنائي "النصّ واضح ويصف عمليات حزب الله بالإرهابية ولم يصدر عن بكركي أيّ توضيح".
في المرة الماضية، برّر الراعي بواسطة وليد غياض وصف الجمهور في بكركي لحزب الله بالإرهابي. تفهّم الحزب وتجاوز الموضوع واستكمل حواره مع بكركي. ذاك الحوار الذي صار عمره سنوات ولم يبلغ سنّ الرشد بعد، ولا يمكن تلمّس نتائجه الإيجابية بين الطرفين. جلسات تتلوها جلسات، وساطات وأصدقاء مشتركون لتكون المحصلة أنّ الخلاف في وجهات النظر سرعان ما يكشف المستور في العلاقة الهشّة المستمرّة بقوة الإصرار على العيش المشترك ولو بالشكل.
التغيّب عن المشاركة في لقاء بكركي الذي أقيم على شرف موفد الفاتيكان لا يعني موقفاً سلبياً من الكرسي الرسولي "لا مشكلة مع الفاتيكان والعلاقة ممتازة والتواصل مستمر مع السفارة البابوية، والاجتماعات المشتركة لم تتوقّف، ولكن الاعتراض على ما قاله الراعي في عظته" تقول مصادر مطلعة على موقف حزب الله وتتابع "إنّ الحوار مع بكركي لم ينقطع ولو لم نتلمّس نتائجه الإيجابية بعد". وتشير إلى أنّ "المجلس الشيعي يعبّر عن نفسه، ولكنّ الموقف ليس موجّهاً إلى الفاتيكان ورسوله، وهو تعبير عن اعتراض على البطريرك الراعي". لطالما تجنّب حزب الله مساجلة بكركي حرصاً على العلاقة المشتركة، وإكراماً لحلفائه من سليمان فرنجية إلى جبران باسيل وميشال عون، وكي لا يتم افتعال أزمة مع رأس الكنيسة في لبنان. ومنذ زمن غير بعيد، استقبل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله موفد بكركي المطران بولس عبد الساتر الذي قصده حاملاً اقتراحاً متعلّقاً برئاسة الجمهورية.
يمكن حزب الله أن يتجاوز كلّ ما سلف إلّا أن يصف البطريرك الماروني عمل المقاومة بالعمل الإرهابي ثم يتقصّد التغاضي عن التوضيح رغم المقاطعة. وهل كانت مشاركة أبو كسم موشّراً يُنبئ بالتراجع؟ قالت المصادر إنّ مشاركته جاءت مصادفة في مناسبة مقرّرة مسبقاً.
كي لا تفهم المقاطعة على أنّها موجهة ضد الفاتيكان، عمل الثنائي على توضيح موقفه خلال زيارة أمين سر دولة الفاتيكان إلى عين التينة، ومن خلال رُسل دخلوا وسطاء بين بكركي وحارة حريك والثنائي. وتقول المصادر المشتركة إنّ دوائر الفاتيكان تفهّمت أنّها لم تكن هي المقصودة وإنّما القضية محصورة بموقف الراعي ووصفه عمل المقاومة بالإرهاب. وبينما توالت المواقف المسيحية المستنكرة لقرار المقاطعة وجّه بارولين رسالة قوية من عين التينة عقب زيارة برّي بإعلانه أنّ "حلّ أزمة الرئاسة يبدأ من هذا المقرّ، وأنّ المسيحيين يتحمّلون المسؤولية طبعاً، لكنهم ليسوا وحدهم في السلطة، وعلى الآخرين تحمّل مسؤولياتهم". لتكون تلك هي الرسالة التي حضر لأجلها، وإن كانت ستجد غداً كلّ فريق يفسّرها على ليلاه، وإن تعمّد التغاضي عن فحواها الأساسي، وهو أنّ أيّ حل للرئاسة لن يبصر النور إن لم يقترن بالتفاهم، وأن مفتاح الحلّ هو في عين التينة.
المعضلة هي في الخلاف في وجهات النظر بين رؤساء الطوائف. وكيف أنّ الحوارات لا تلغي وجود تباين يلامس القطيعة الموجودة عملياً، وإن حاول الجميع تأكيد العكس.