"راحت سكرة" ملاحقة "بعض" الشركات المالية، و"رجعت فكرة" مصير "هيئة الأسواق المالية". فما لحق ببعض الشركات المرخّصة، وغير المرخّصة "لبنانياً"، من أذى مادّي ومعنوي نتيجة الجهل بطبيعة عملها وقلّة خبرة واستنسابية المولجين بالملاحقة والتحقيق، بشكل خاص، وما أصاب مستقبل الاستثمار بشكل عام، أعاد السؤال عن الدور المفقود للهيئة الناظمة للقطاع.
في الوقت الذي دبّت الفوضى في القطاع المالي، وجرى توقيف أصحاب شركات على ذمّة تحقيق تنقُصه بديهيات المعرفة العلمية والعملية بأصول الأعمال المالية ومفاهيمها، وتمّ "تشميع مكاتب" وفكّ شمع مكاتب أخرى مشابهة للأولى، وأُصدرت "الإدانات" الأولية لـ "بعض" "المخالفين"، وغُضّ النّظر عن البعض الآخر من "المحظيين والمحظوظين"، من مراجع ثبت عدم درايتها بأصول العمل في هذا القطاع، كانت هيئة الأسواق المالية موضوعة في ثلاجة الانتظار، تمهيداً لـ "تفتيتها"، ونثرها رماداً على ذكرى بلد كان سبّاقاً بين جيرانه إلى وضع الأطر التنظيمية للأسواق المالية.
القرار بحلّ الهيئة
بالعودة قليلاً إلى الوراء، اتّخذ حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري قرارين حملا الرقم 225/ هـ أ / 23 تاريخ 28 – 12 – 2023، و1/ هـ أ / 2024 تاريخ 10 – 1 – 2024 قضيا بالتوقّف الإداري المؤقّت لهيئة الأسواق المالية. وذلك إلى حين التوصّل إلى صيغة تؤمّن التمويل اللازم لها، وتضمن الانسجام في عملها. خصوصاً بعدما طفت الخلافات بين أعضاء مجلس إدارتها على السطح، وحُوّل دورها من ميسّر إلى معرقل. القرار جوبه من قبل قياديين في الوظائف العليا للهيئة وبعض موظفيها بالطعن أمام مجلس شورى الدولة، انطلاقاً من عدم جواز حلّ إدارة رسمية أُنشئَت بموجب القانون 161/2011، إلّا بقانون صادر عن البرلمان. وبالفعل أصدر الشورى في 22 شباط قراره القاضي بوقف تنفيذ القرارين المطعون فيهما.
ما هو مصير الهيئة؟
في خضمّ هذه "المعمعة" الإدارية، المترافقة مع شح الموارد واستقالات بالجملة من "الهيئة"، كان أمن الدولة ينشط في توقيف شركات مالية، بناءً على إشارة من النيابة العامة المالية (راجع مقال: فوضى "هيئة الأسواق" تعكس واقع الاستثمار). وقد افتُقد في هذه الليلة الظلماء "بدر" لجنة التفتيش (لجنة العقوبات)، والمحكمة الخاصّة بهيئة الأسواق المالية العصيتين على التشكيل منذ العام 2011. واللجنتان اللتان كانت من مسؤوليتهما ملاحقة الشركات وقيادة التحقيق والتثبّت من المخالفات، والتمييز بين الشركات المرخّصة في لبنان وتلك المرخّصة من الاتحاد الأوروبي من الفئة الأعلى لدى هيئة ESMA الناظمة، والتي تتداول الأسهم والسندات المالية والعملات مباشرةً وخارج لبنان إذ تمّ إقفالها، وغضّ النظر عن "دكاكين" البورصة التي مرّ التحقيق أمام أغلبها مرور الكرام من دون أن يرف لأصحابها جفن. وكان من شأن تحقيق محترف من هذا النوع أن يحدّ من الخسائر المادية والمعنوية لبعض الشركات التي جرى توقيف أصحابها أسابيع طويلة في انتظار فهم آلية العمل. هذه المطاردة التي انتهت بضحايا كما ذكرنا في مقال: "همروجة" مكافحة البورصة "غير الشّرعيّة" تنتهي بـ"كبش محرقة"، فتحت الباب عريضاً أمام السؤال عن مصير هيئة الأسواق المالية، وهل يكون ما حصل بمنزلة جرس إنذار لتفعيل دورها؟ أم العكس سيستمرّ "وأدها" تحت حجج وأعذار يمكن تجاوزها بقليل من العمل والإصرار؟
العبرة في الأفعال لا الأقوال
يتسرّب من القنوات الخلفية التي تصل مبنى "هيئة الأسواق المالية" المجاور للمركز الرئيسي لمصرف لبنان، معلومات عن نيّة صريحة وعلنية بإعادة تفعيل دورها. "لكن إذا كان المقياس الحقيقي في الأفعال لا الأقوال، فإنّ شيئاً لم يتغيّر بعد في العقلية التي تدار بها الهيئة والسلوك على أرض الواقع"، يقول مصدر متابع. "وما دام البحث الجدي لملء منصب مدير وحدة الرقابة المالية FCU لم يحدث، (كان يشغله خليل غلاييني قبل تقديم استقالته وتديره الآن الموظفة الوحيدة المتبقّية في تلك الوحدة، علماً أنّ المطّلعين على تفاصيل عمل الهيئة يشيدون بتلك الموظفة وبكفاءتها، ولكن لضرورات التوزيع الطائفي داخل الهيئة، لا يمكن تثبيتها في منصب مدير الوحدة) فإنّ التغيير سيبقى كلاماً من دون أن ينعكس تطبيقاً على أرض الواقع. خصوصاً بعدما أُفرغت الهيئة من الكفاءات القادرة على تقديم قيمة مضافة إلى عمل الهيئة"، واستمرار المماطلة في فتح باب التوظيف لملء الشواغر. علماً بأن الجواب الوحيد عن موعد سدّ النّقص العددي هو: "انطروا شوي". وعلى هذا المنوال المستمرّ منذ أربعة أشهر لا "دخان أبيض" سيخرج "من مدخنة" هيئة الأسواق المالية.
الترخيص في تموز؟
مفاعيل تعليق العمل في هيئة الأسواق المالية ترك انعكاساته السلبية على مجموعة من الشركات ذات الترخيص المعلّق منذ العام 2021. وهناك حوالى نصف دزينة من الشركات أتمّ ملفّاته على أكمل وجه وأُحيلت إلى مجلس الإدارة قبل أكثر من ستة أشهر لإصدار القرار، ولم تُبتّ حتى كتابة هذه السطور... "وإذا لم يتمّ إصدار الرخص قريباً، كما وعدنا، فلن يكون أمامنا خيار إلّا سحب استثمارنا من لبنان والتوجه إلى أيّة دولة قريبة كدول الخليج أو حتى قبرص حيث يصدر الترخيص خلال أيام قليلة"، يقول أحد أصحاب الشركات ممّن يملكون خبرة أكثر من 30 عاماً في مجال الأسواق والاستشارات المالية. "فالحاكم السابق وعدنا خيراً والحاكم الحالي يعرفنا معرفة شخصية ويعرف مدى خبرتنا وجدّيتنا، ولم يعد بمقدورنا تحمّل الأعباء المالية الكبيرة المتّصلة بكلفة إعداد الملف، وتوكيل محامٍ، وتعيين مدقّق محاسبة ومستشار، وحجز موظفين ودفع إيجار المكاتب وتحمل أعباء المياه والكهرباء وغيرها من المصاريف. وقد تخطّت المبالغ المستثمرة للترخيص منذ اليوم الأول إلى الساعة الـ100 ألف دولار أميركي". وإذا "تجرّأنا على العمل بموجب رخصنا الأجنبية نتعرّض للملاحقة القضائية"، يضيف صاحب الشركة، "تماماً كما حصل قبل مدّة وجيزة مع مجموعة من الشركات من دون أن نجد أحداً يفهم علينا أو نفهم عليه، وندخل السجون وندفع "الخوات" فقط لأننا نريد الاستثمار في لبنان وجذب العملة الأجنبية بدلاً من أن نكون مصدّرين لها".
وقف الترخيص عن سابق إصرار وتصميم، ولكن!
القرار بوقف الترخيص كان قد اتخذ عن سابق إصرار وتصميم من الهيئة أيام الرئيس السابق لهيئة الأسواق المالية، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بسبب حالة الفوضى التي سادت البلد بعد الانهيار في العام 2019، والعجز عن إقرار القوانين الإصلاحية، وفي مقدّمتها الكابيتال كونترول. وكان من شأن الترخيص لشركات جديدة أن يعرّضها لمشاكل كبيرة، خصوصاً إذا شمل أيّ قانون للكابيتال كونترول الأموال النقدية، أو حدّ من التدفقات... . و"كنّا في غنى عن إضافة المزيد من التعقيدات والمشاكل، ولا سيما أنّ العدد الموجود من المستثمرين الماليين والشركات كان كافياً" بحسب مقرّبين من الهيئة. "وفضّلنا الانتظار إلى حين وضوح الرؤية". وعلى الرّغم من عدم حصول شيء يذكر في موضوع الإصلاحات الأساسية والجوهرية، "شهدنا استقراراً مرحلياً منذ أكثر من عام، ولا سيما في سعر الصرف"، يتابع المصدر،" الأمر الذي شجّع هيئة الأسواق المالية على تفعيل الملفات المستأهلة والاتجاه لترخيص لمجموعة من الشركات المتمّمة ملفاتها والمستأهلة في تاريخ حده الأقصى أوائل تموز المقبل". ذلك مع العلم أنّ الحجج التي تساق لعدم إعطاء رخص جديدة تدحضها آراء المستثمرين الذين يقولون إنّ عدد الشركات المرخّصة والفاعلة في السوق لا يتخطّى أصابع اليدين، وهذا ما يقضي على المنافسة ويشجّع على احتكار السوق. وكان من شأن إعطاء المزيد من التراخيص التشجيع على المنافسة وتحقيق ما هو في مصلحة المتداولين.
حماية المستثمرين أولوية
زيادة أعداد الشركات في ظلّ غموض الرؤية حول مستقبل الهيئة، وعدم تفعيل دورها، واستكمال بنائها تثير المخاوف من الاستنساب في التعاطي مع الشركات أو ملاحقتها كيدياً، من دون أن يكون هناك جهة تلعب دور الفيصل أو الحكم باتخاذ القرارات. هذه المخاوف تبدّدها مصادر الهيئة بالقول إنّه "رغم كلّ الصعاب والتحديات والعقبات تلعب الهيئة دورها من دون أن يظهر في معظم الأحيان. وهي تساعد القضاء في تفسير نصوصها عند بروز أيّ مشكلة. وذلك على غرار ما حصل أخيراً إذ كان هناك أخذ ورد بين الحاكم بالإنابة والقضاء. وهذا دور مستور وليس علنياً". مع التأكيد أنّ "القضاء يحقّ له التدخّل لدى وجود محكمة أسواق مالية أو لدى عدم وجودها. وأيّ مستثمر يمكن أن يتوجه إلى القضاء العادي ولا شيء يلزمه بمحكمة الهيئة. مع العلم أنّ من الأسهل اللجوء إلى محكمة الهيئة (في حال تشكيلها) كونها تضمّ قضاة مختصّين".
ما يبعث على التفاؤل قليلاً هو إمكانية الترخيص لشركات استثمار قريباً، ولكن المحاذير من إضعاف دور الهيئة تبقى أكبر، لأنّ فوائد زيادة عدد الشركات في ظلّ تعطيل الهيئة الناظمة للقطاع أو إضعافه وترك القرار في يد أشخاص تؤثّر سلباً على السوق برمّته. وهذا ما ظهر أخيراً إذ تعمّدت شركات وضع إعلانات تزامناً مع الحملة التي شنّتها النيابة العامة المالية على باقي الشركات. الأمر الذي دفع بالعديد من الخبراء إلى التساؤل عن "الرابط بين الحملتين، مستغربين كيف أنّ تلك الشركات ظلت بعيدة عن الرقابة".