بعد مرور سنة على آخر جلسة انتخابات رئاسية في الرابع عشر من حزيران 2023، ورغم كلّ المحاولات لتحريك الملف التي قام بها التيار الوطني الحر على مدى عام مضى، لم يتوصّل إلى أيّ معطى من شأنه أن يحرّكه. وحيث فشل التيار الوطني الحر فشل الوسيط الفرنسي جان ايف لودريان، وكذلك اللجنة الخماسية. ولم يكن وضع المعارضة أفضل، وإن تقاطع معها التيار على اختيار مرشح رئاسي .
بات واضحاً أنّ الوضع كان يتجه من سيّىء إلى أسوأ وبقي الحال على ما هو عليه، فراغ رئاسي وحكومة مبتورة برئيس يخالف صلاحياته وبلد ممسوك بوحدة القرار ومجلس نواب عصي على تشريع أبوابه لانتخاب الرئيس. وضع يساهم في انهيار الدولة ويعمّق الخطر على الوجود في ظلّ استحقاقات خطرة، أبرزها الحرب الإسرائيلية على غزة وما يجري في جنوب لبنان وأزمة النزوح السوري. وضع لم يحبط التيار الوطني لكنّه شكّل حافزاً للمبادرة بدل انتظار المبادرات الخارجية. لم يطلق التيار مبادرة ولم يدّع ذلك بل قال إنه سيطرح أفكاراً للتداول. لم يحرجه التقارب مع رئيس مجلس النواب، هو الذي كان من أوائل الذين وافقوا على طرحه مبدأ الحوار والتشاور من أجل انتخاب الرئيس.
يعرف التيار حدود إمكاناته "لكنّه لا يستسلم ليكون متلقّياً سلبياً لكلّ ما يأتي من خارج الحدود"، تقول مصادر التيار. قبل ثلاثة أشهر دخل رئيس التيار جبران باسيل في حوار مع رئيس مجلس النواب نبيه بري "كان حواراً مبنياً على توقّعات منطقية ويرتكز على قاعدة ضرورة التوافق لإنقاذ الوضع والخروج من المأزق". على هذه القاعدة "بدأ التيار الحوار في عين التينة، بينما كان يراقب التشاور الذي تجريه كتلة الاعتدال النيابية التي حاولت أن تتوصّل إلى ما يؤمّن تحريك الملف مدعومة من اللجنة الخماسية" على قاعدة "واكبنا تحرّكها وعرفنا العقبات التي اعترضت مبادرتها وكانت سبباً في إحباطها". في موازاة ذلك، كان التيار قد اتفق مع الحزب الاشتراكي على ملفات عدّة، أبرزها مقاربة الحرب على غزة ووحدة الساحات وأزمة رئاسة الجمهورية، وفق منطق "ولأنّ همّنا مشترك مع الاشتراكي بدأنا البحث عن قواسم مشتركة لبناء جسور تحقق نوعاً من التفاهم الداخلي على تحريك ملف رئاسة الجمهورية".
من الواضح أنّ المشكلة الأساسية عند المعارضة لأنّ عصبها، أي القوات، يرفض المشاركة أو فكرة التشاور أو الحوار
تزامن تحرّك التيار مع تحرّك كان بدأه اللقاء الديمقراطي، فزار النائب تيمور جنبلاط، على رأس وفد، اللقلوق التي سبق أن زارتها كتلة الاعتدال النيابية. عرض باسيل ما لديه بينما تم التوافق مع الاشتراكي على التفاهم والتكامل والمساندة بين الكتلتين لكسر حلقة الفراغ في الرئاسة و"انطلق كلّ منا لاستكمال مبادرته". بدأ التيار أولى جولاته من بكركي فالتقى مع سيدها على عناوين المرحلة، ونال مباركة الصرح على تحرّك لم يحمل المبادر إليه، أي باسيل، مبادرة محدّدة، بل مجموعة أفكار حازت رضى البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، ومنها انطلقت الجولة التشاورية بمداها الواسع، فشملت كلّ الكتل النيابية والمستقلّين. لم يطلب التيار موعداً لزيارة معراب، ونائب القوات كان حاضراً في اللقاء مع المعارضة، وهذا ما يؤمّن حضور القوات ويعوّض عن المسعى المباشر معها.
على مَ ارتكزت جولة التيار التشاورية؟ سؤال تجيب عنه المصادر "ارتكزت على المعطيات المتوافرة لدينا بعد اللقاء الأول مع رئيس المجلس. أوّل تشاور رسم معه الخطوط العريضة التي يمكن أن نتوصل إليها. فرئيس المجلس وافق خلال اجتماعه مع باسيل بحضور الوسيط بينهما النائب غسان عطاالله على نقاط مهمة: إمّا يتمّ التوافق على اسم الرئيس، وإلّا يذهب رئيس المجلس إلى عقد جلسات متتالية لانتخاب الرئيس، أي بمعدّل 4 جلسات مفتوحة في محضر واحد وفي يوم واحد، ويكرّر ذلك ثلاث مرات، أي 12 جلسة انتخاب، أو أن يشارك تكتّله في تأمين النصاب لجلسة الانتخاب، وهذا ما يعكس إرادة حقيقية لإنجاز الملف الرئاسي. فيكون على النواب إمّا الذهاب إلى توافق على اسم المرشح، أو حصول جلسة انتخاب وليفز من يفوز. في رأي التيار، إنّ التوافق أفضل من الانتخاب، ولكن الانتخاب يبقى أفضل من الفراغ، أي الركون إلى الدستور وإجراء انتخابات تنتهي إلى فوز من ينال نسبة أعلى من الأصوات.
معادلة تدفع إلى السؤال عن موقف حزب الله وهل يتوافق مع بري على معالجة كهذه، قد تهدد مصير مرشحه سليمان فرنجية. في الجواب المبني على الوقائع فإنّ الثنائي لطالما وضع بري في واجهة المفاوضات، وبنى على أساس توجهاته، فإذا كان الجواب أنّ حزب الله يوافق على ما وافق عليه بري، فيعني ذلك وجود 86 نائباً مؤمّناً حضورهم جلستي التشاور والانتخاب ويكون قد أصبح لدى التيار ما يعرضه للفرقاء.
في اللقاء مع كتلة المعارضة في الصيفي كما مع كتلة فيصل كرامي والتغييريين والاشتراكي والاعتدال ونواب الجنوب المستقلين وكتلة فرنجية، وخلال التواصل الذي تم مع كتلة الوفاء للمقاومة، "كانت الحصيلة مشجّعة وإيجابية والأكثرية تجاوبت مع فكرة التشاور، ومن اعترض بمنطق ومن تشنّج دعوناه إلى عدم التشنّج". خلال مؤتمر صحافي عرض باسيل حصيلة مشاوراته ووضعها في متناول الرأي العام، وأظهر أنّ الكرة في ملعب النواب والكتل النيابية ليبلغوا برّي بمشاركتهم، وفي ملعب رئيس المجلس ليسألهم المشاركة. حسب ما يرى التيار، من الواضح أنّ المشكلة الأساسية عند المعارضة لأنّ عصبها، أي القوات، يرفض المشاركة أو فكرة التشاور أو الحوار انطلاقاً من أسباب شكلية تؤدّي إلى التعطيل في نهاية المطاف.
من جهة التيار "نعتبر أنّنا قمنا بما لدينا. نجحنا في ما حدّدناه لأنفسنا، نعرف حدودنا وإمكاناتنا وما يحيط بنا من تعقيدات تتصل بالوضع في المنطقة والحرب على غزّة، فضلاً عن التعقيدات الداخلية المستعصية"، لكن هذا لم يمنع "التزامنا، فلا نتوقف عن المبادرة ونعمل بالتنسيق مع الآخرين للتوصّل إلى ما من شأنه أن يؤمّن انتخاب الرئيس".
قبل أن يعقد باسيل مؤتمره الصحافي كتب نائب القوات غسان حاصباني عبر حسابه على "أكس": تذكير لمن يحاول التغاضي عن الدستور: تسهيل الانتخابات هو التئام المجلس والاقتراع بعدّة دورات حتّى انتخاب رئيس بحسب الدستور، ومن الممكن التشاور بين الدورات إذا طال الأمر. تعطيل الانتخابات هو فرض شروط مسبقة للقيام بذلك. خلق أعراف هو القيام بعمل خارج الدستور والتخفيف من وطأة هذا العمل بذرائع مثل الحالات الاستثنائية، أو حفظ ماء الوجه أو الوقوف على خاطر البعض أو غيرها". ما يفسر حسب مصادر سياسية على أنّه رفض من القوات للحوار أو التشاور واستكمال مسيرتهم في التعطيل، وهذا ما يجعل الدعوة على المحك لأنّ بري لن يرضى حكماً الدعوة إلى حوار ستتم مقاطعته من المعارضة المتأثّرة بموقف القوات، وليس بعيداً أن يتأثّر النوّاب السنّة بالموقف إذا ما حظي بموافقة السعودية، وهذا ما يصعّب المهمة على بري الرافض حكماً الظهور بموقع المساهم في انقسام المسيحيين أو الداعي إلى حوار لا يلاقيه إليه نوّابهم والمعارضة.
نال التيار شرف المحاولة وأضيفت مبادرته إلى جملة المبادرات التي أظهرت العقم الرئاسي، ولكن هذا لا يمنع أنّ لدى باسيل الكثير لفعله وقوله بعد. عين الخارج على موقفه، وانفتاحه موضع تقييم جديد من جهات ديبلوماسية تثني على المرحلة الجديدة التي افتتحها.