شيئاً فشيئا بدأت تتكشّف أطر حل للحرب في غزة أريدَ له أن يكون ذا طابع دولي بغطاء من مجلس الأمن. فقد نجحت الولايات المتحدة في إقناع مجلس الأمن بتبني الخطة التي وضعتها لإنهاء القتال في غزة والمؤلفة من ثلاث مراحل موزّعة على ستة عشر أسبوعا. أصدر مجلس الأمن هذه الخطة بقرار حمل الرقم 2735 بتأييد أربع عشرة دولة وامتناع روسيا عن التصويت.
حركة حماس أعلنت أنها تتعامل مع القرار بإيجابية وسلّمت ردها إلى المسؤولين القطريين. إلا أن وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن قال من الدوحة إن التعديلات التي تقدمت بها حماس تتضمن ما لا يمكن قبوله على الإطلاق، واتهمها بعرقلة تنفيذه. مع ذلك لم يصدر عن إسرائيل ما يشي بأنها قبلت القرار بل قالت حكومتها إنها درست بعمق رد حماس عليه ووجدت أنّ من غير الممكن الموافقه عليه.
مصدر دبلوماسي لبناني استنتج من هذه المواقف المتعارضة أنّ من وضع الاقتراح كان يتوقّع أن تردّ حماس بتعديلات عليه، فتقع عليها مسؤولية رفضه بدلاً من إسرائيل.
يتضمّن القرار خططاً لما بعد وقف إطلاق النار متروكة للمحادثات بين الجانبين برعاية دولية. هذه المواضيع لا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتقصّد رفض الخوض فيها إلى ما بعد انتهاء الحرب وتحقيق الأهداف التي أعلنها لها. ولا يزال خصوم نتنياهو داخل إسرائيل ومن يعارضون سياساته خارجها يصرّون على أنّ تبنّي مجلس الأمن لهذه الخطة هو إنقاذ لنتنياهو من الأهداف التي وضعها والتي قالت قيادة الجيش الإسرئيلي ووزارة الدفاع الأميركية، إنها غير واقعية.
أهمّ الأسئلة هو من سيحكم غزة بعد وقف إطلاق النار ومن سيملأ الفراغ الذي سيتركه تفكيك بنية حماس العسكرية؟ إلى الآن يرفض نتنياهو كلّ ما له علاقة بحماس ويرى أن السلطة الفلسطينية عاجزة عن إدارة غزة. ويرتدي هذا الموضوع أهمية بالغة، فالسلاح متوافر بكثرة في غزّة فيما السلطات الأمنية غائبة والحاجة عظيمة والمجاعة على الأبواب والأمراض متفشية. وحين يتوافر السلاح وتغيب سلطات الأمن يصبح الشارع ملكا للعصابات المسلحة.
أهمّ الأسئلة هو من سيحكم غزة بعد وقف إطلاق النار ومن سيملأ الفراغ الذي سيتركه تفكيك بنية حماس العسكرية؟
قبل فترة كشفت صحيفة نيويورك تايمز عن أنّ العاصمة البريطانية استضافت في كانون الأول الماضي سلسلة اجتماعات شارك فيها المعنيون الأساسيون وأطراف أخرى مانحة للبحث في المرحلة التي تلي وقف إطلاق النار، لأن بقاء الجيش الإسرائيلي في غزة مرفوض إسرائيليا وفلسطينيا وعربيا ودوليا ولأن إسرائيل لن تسلّم مسؤولية الأمن في غزة بالكامل لفريق ثالث.
مع استبعاد السلطة الفلسطينية عن تسلّم مسؤولية الأمن في غزة، وصعوبة إيجاد قوة غزاوية لا علاقة لها بحماس، وخطورة التعاقد مع شركات أمنية دولية متخصصة في حفظ الأمن، ورفض واشنطن القاطع إرسال أي جندي، وبالنظر إلى ضرورة وجود قوة أمنية مدرّبة، طرح المجتمعون فكرة إرسال قوة حفظ سلام نواتها الصلبة عربية بمشاركة دولية رمزية. لكنّ الأمر لم يبتّ بعد. وهو خصوصاً يتوقف على مدى قوة حماس أو ضعفها بعد إقرار الاتفاق.
لكنّ دون تنفيذ هذا الطرح عقبات أولاها أن إسرائيل تصرّ على استمرار القتال إلى أن تحقق أهدافها حتى لو استغرق الأمر شهوراً إضافية. ثانيتها أن من سيبقى في غزة، فوق الأرض أو تحتها لن يقبل بوجود قوة أمنية غريبة يعتبرها احتلالاُ مقنّعا. وثالثتها أن كل الدول التي اقترح اسمها للمشاركة في قوة لحفظ الأمن تعارض فكرة المشاركة. وهذا مأزق يشير إلى أن المرحلة المقبلة مرشحة لتشهد مفاجآت عسكرية وسياسية.
مؤسسة راند الأميركية للأبحاث نشرت دراسة تحدثت فيها عن مرحلة انتقالية تمتد من وقف القتال إلى البدء بتنفيذ برامج اليوم التالي. ورأت أن الإمساكَ بالأمن يأتي على رأس سلّم الأولويات لضمان التمهيد لنجاح اليوم التالي.
هذه المرحلة عادة ما تكون مرحلة تثبيت الاستقرار. وقد دلت التجارب إلى أنّ جهود تثبيت الاستقرار تفشل إذا كان العنصر المحوري فيها هو التعامل على أساس أمني. والأمثلة على ذلك كثيرة من كوسوفو إلى العراق. فهذه المرحلة تحتاج إلى فرَق مدنية متخصصة في معالجة الأوضاع الاجتماعية والطبية والتعليمية والتنموية وتكون قادرة على اختراق الروتين لدى القوة العسكرية التي تتولى حفظ الأمن.
المرحلة الانتقالية هي مرحلة التقاط الفرص للتمهيد للمرحلة الآتية. وذكرت مؤسسة راند هذا الموضوع في تقرير خاص أعدّته قالت فيه إنّ تلك المرحلة تشهد تسجيل "الانطباعات الأولى وتحديد التوقعات وبروز التأييد أو الاعتراض."
وتعتبر أوساط البيت الأبيض أن نتنياهو يخاطر برفض التخطيط للمرحلة الانتقالية ولليوم التالي متّكلا على جنوح الرأي العام الإسرائيلي إلى أقصى اليمين وعلى النشوة الناتجة عن تحرير أربع رهائن بعمليّة كوماندوس، ولو بكلفة عالية للقوة المهاجمة وللمدنيين الفلسطينيين.
غدا – ونرجوه قريبا – تنتهي الحرب في غزّة. ستنسحب القوات الإسرائيلية المقتحمة على الأرجح وفق ما ينص عليه القرار 2735 وستعلن حماس انتصارها وستقول لحلفائها وأخصامها وأعدائها والعالم "انتصرنا وبقينا وانسحب جيش العدوان."
في ذلك اليوم ستعمّ التظاهرات أرجاء القطاع والضفة الغربية والقدس الشرقية والعواصم العربية وسيعمّ شعور النشوة بالنصر. لكنّ الجميع سيعودون إلى الواقع بعد انتهاء الاحتفالات وسيسألون قادة حماس المنتشين بالنصر عن بيوتهم التي سُوّيت بالأرض وأماكن عملهم التي جُرفت، ومدارسهم ومستشفياتهم المهدّمة والتي اصبحت مقابر. سيسألونهم عن حقولهم المحروقة ومصانعهم التي لم تعد موجودة، وعن قوتهم ودوائهم وكل شيء آخر.
أما نتنياهو فشعب إسرائيل وقضاؤها مسؤولان عن محاسبته.