لم تظهر المبادرات الداخلية والخارجية، على كثرتها، أنّ الاستحقاق الرئاسي بات قريباً. خطوات هدفها تحريك الجمود في المسعى الرئاسي وتقريب وجهات النظر، لعلّ ذلك يفتح أبواب مجلس النواب أمام جلسة لن تنتهي بالضرورة إلى انتخاب رئيس للجمهورية.
لم تحظ زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان برضى غالبية القوى السياسية التي التقته. لم يحمل جديداً بحسب أقوال معظمهم. زيارته المرشح سليمان فرنجية كانت لافتة، وصراحته بلغت حد "الوقاحة" لدى إبلاغه "أن لا فرصة لك بالرئاسة فانسحب". بتحليل مؤيّدي فرنجية، فإنّ لودريان مارس دور المندوب السامي الفرنسي من دون أن يكون سامياً. اعتقد أنّه بأسلوبه هذا يقطع طريق فرنجية إلى بعبدا، ويفسح في المجال للمرشح الثالث. ومع حزب الله طالب بجلسات تشاور تؤدّي إلى جلسة انتخاب رئيس، فكان جواب الحزب حاسماً أن لا حوار إلّا برئاسة الرئيس نبيه بري يفتح بعده المجلس.
أنهى لودريان زيارته ولم يخرج بنتيجة. خلّف استنتاجاً أن الهدف من هذه الزيارة إعداد تقرير يقدّمه رئيسه ايمانويل ماكرون إلى قمته المنتظرة مع الرئيس الأميركي جو بايدن، غايتها التوصّل إلى اتفاق بشأن الحرب على غزّة والبحث في حلّ للجبهة الجنوبية.
غاب لودريان عن المشهد ولم يخلّف أثراً. بعده مباشرة ارتأى الحزب الاشتراكي أن يجمع المختلفين من رؤساء الأحزاب على كلمة سواء. رئيسه السابق وليد جنبلاط مهّد لمبادرته بحديث عاد إلى مربّع التحالف غير المعلن مع الثنائي الشيعي، فهادن حزب الله وأشاد بجبهة الإسناد من الجنوب، وأطلق محرّكاته داعياً إلى حوار برئاسة بري. قالها في معراب وهل هناك رئيس مجلس للنواب غيره، وإن لم تحاوروه فمن ستحاورن إذاً. عبارات لم تمنع رئيس القوات سمير جعجع من رفع السقف في مهاجمة بري رافضاً أي حوار برئاسته، لأنّ أمراً كهذا غير وارد في الدستور.
في موازاة ذلك، سمع الاشتراكي تأييداً من رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، الذي يستعدّ هو أيضاً لجولة على رؤساء الأحزاب، في مبادرة تلتقي وخطوة الاشتراكي ولا تتعارض معها، غايتها فتح أبواب الحوار. للتيار رأي يلتقي بشأنه مع الاشتراكي مؤيّداً الذهاب إلى حوار بري ليبنى على الشيء مقتضاه.
أثنى حزب الله على خطوة الاشتراكي ومثله فعل كثيرون، ولكن بقي الحوار معلّقاً على خشبة رفض القوات التي تمثّل تكتّلاً نيابياً واسعاً لا يمكن فتح حوار في غيابه. البحث لا يزال مستمراً والمساعي لم تتوقّف، ولكن كلّ هذا لا يجد من "يقرّشه" في حسابات حزب الله الذي، وإن تجاوب مع أيّ مبادرة رئاسية، لم يحد تفسيره عن اعتبارها مجرّد تقطيع وقت إلى أن تنتهي الحرب الإسرائيلية على غزّة.
هي خطوة إلى الأمام يفضّل بري تسليفها إلى من يملك قرار الحلّ والرّبط، وهو يعلم أنّ الاستحقاق الرئاسي بات مرهوناً بالوضع العسكري...
تقلّل مصادر مطّلعة على أجواء حزب الله من شأن المبادرات المتداولة، وتعتبرها مجرّد مساعٍ لملء الفراغ. وفي ضوء ما يحصل في غزّة، تقول إنّ الحزب يزداد تمسّكاً بمرشّحه سليمان فرنجية، وهو أبلغ لودريان موقفه هذا رداً على قوله أن لا حظوظ لفرنجية ولا يحظى بتأييد، فسمع رداً حاسماً من الحزب اكتفى بعده بإظهار علامات تعجّب على وجهه وبحركات يديه.
يدرك حزب الله أنّ الخلاف الداخلي والفيتو الخارجي على فرنجية ولا سيما من قبل المملكة العربية السعودية، يقلّلان من حظوظ ترشيحه، ومع ذلك يتمسّك بموقف الداعم له لاعتقاده أنّ الرئاسة ستندرج في سياق تسوية شاملة، تبدأ بالوضع في الجنوب وتنتهي إلى انتخاب رئيس للجمهورية. في نهاية المطاف، يختصر حزب الله مسار رئاسة الجمهورية بقول مصادره إنّ زيارات لودريان، كما لقاءات الدوحة ومبادرة الإشتراكي، لن توصل إلى النتيجة المرجوة وهي الاتفاق على رئيس للجمهورية. علماً أن الخماسية المصطدمة حالياً بخلاف قطري سعودي قد تكون سبباً في تجميد مساعيها في الوقت الراهن، في حين يقف الجانب الأميركي مراقباً وهو يقول في سرّه: الأمر لي.
يلمس حزب الله من خلال حركة الموفدين تسليماً بأنّ الرئاسة في لبنان مجمّدة إلى ما بعد وقف الحرب على جبهة الجنوب. وإن كان لا يريد الربط ويستعد للانفتاح على أيّ ميادرة داخلية أو خارجية للحلحلة، فإنّ الواقع يبيّن صعوبة الانتقال إلى الاتفاق على رئيس، في حين أن الطرف الأساسي، أي الحزب، يخوض معركته ضد إسرائيل في الجنوب. تقول مصادره إنّ الربط يفرض نفسه على نحو يجعل تحريك الملف مستحيلاً. حقيقة يعترف بها الاشتراكي ولو حاول ملء الفراغ بحراك غايته التقارب بين الفرقاء، وهو يعلم، على غرار الآخرين، أن لا رئيس قبل نهاية حرب غزة ووقف جبهة الإسناد.
أمّا رئيس مجلس النواب فعينه على المسعى الأميركي وتواصله مع الموفد آموس هوكستين لم يتوقف. هي خطوة إلى الأمام يفضّل بري تسليفها إلى من يملك قرار الحلّ والرّبط، وهو يعلم أنّ الاستحقاق الرئاسي بات مرهوناً بالوضع العسكري، وحلّه سيكون ضمن سلّة شاملة متكاملة. تمسّكه بفرنجية، على غرار حزب الله، ينطلق من اعتبار أنّ الاميركي لم يعلن فيتو على أيّ مرشح، وأنّ كل تفاهم قد يصبّ في مصلحة انتخابه، وأنّ للتمسك به أبعاداً إستراتيجة يتمنّى حزب الله لو يتفهّمها جبران باسيل.