لعلّ أخطر ما يواجه الاقتصاد اللبناني هو حالة "اللا يقين" على صعيد مختلف الملفّات السياسية والمالية والاجتماعية. بالإضافة إلى "تغييب" الإصلاحات الجوهرية، تُرخي الحرب المندلعة في الجنوب والمعرّضة للتوسّع في أي لحظة، والعجز الفاضح عن انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة فاعلة، بثقليهما فوق اقتصاد مأزوم ومنهك. هذا المزيج من العوامل غير المؤكدة إلى حدّ كبير، ترجمها مؤشّر مديري المشتريات PMI – بلوم لبنان، إذ انخفض إلى أدنى مستوى له في 16 شهراً.
يشكّل مؤشّر مديري المشتريات، أو ما يصطلح عالمياً على تسميته PMI، واحداً من أهمّ المؤشّرات "الميكرو – اقتصادية"، وأكثر الأدوات الموثوق بها لتحليل التقلّبات واستخلاص النتائج في القطاع الخاص. يبنى المؤشر شهرياً على قياس 5 مكوّنات أساسية على عيّنة من الشركات الخاصة. هذه المكوّنات هي: الطلبيات الجديدة، مستوى الإنتاج، مستوى التوظيف، مواعيد تسليم المورّدين، مخزون المشتريات. وتشير القراءة الأعلى من 50 نقطة إلى وجود تحسّن في النشاط الاقتصادي للشركات، في حين تشير القراءة الأدنى من 50 إلى وجود تراجع.
مؤشّر مديري المشتريات في لبنان يتراجع
في لبنان بادر مصرف لبنان والمهجر إلى إطلاق هذا المؤشّر للمرّة الأولى في العام 2013، وتعدّه مجموعة S&P Global. فيتمّ إرسال الاستبيان إلى مديري المشتريات في 400 شركة تتوزّع على قطاعات الزراعة، والتعدين، والتصنيع، والإنشاءات، والبيع بالجملة، والبيع بالتجزئة، والخدمات. وتُجمع الردود في النصف الثاني من كلّ شهر، وتقارن بالشّهر السابق.
في نيسان الماضي، تراجع مؤشر PMI إلى 47.9 نقطة، بعدما قارب 49 نقطة في آذار السابق. وقد نتج هذا التراجع من الانخفاض في ثلاثة من المكونات الخمسة التي يتشكّل منها المؤشّر. إذ سجّلت الشركات في أيار تراجعاً في الإنتاج، والطلبات الجديدة، وطلبات التصدير الجديدة. ويرجع ذلك إلى حد كبير، بحسب التقرير المصاحب للمؤشر، إلى "التوتّرات المتزايدة بين إسرائيل وغزة والحدود الجنوبية اللبنانية. مع ترجيح أن تبقى التوترات على طول الحدود الجنوبية للبنان مع إسرائيل مرتفعة لبقية العام، وارتفاع مخاطر التصعيد". وعلى الرغم من انخفاض مؤشر مديري المشتريات، استقر التوظيف في القطاع الخاص، وكان التضخّم أقلّ بسبب السياسة التي يعتمدها مصرف لبنان، والتي أدّت إلى استقرار سعر الصرف، وتالياً إلى كبح التضخّم".
المؤشرات الاقتصادية "تتقهقر"
عموماً، تشهد المؤشّرات الاقتصادية الأساسية تراجعاً ملحوظاً منذ بداية العام الجاري، لتتعمّق أكثر فأكثر في أيار الماضي، وهذه أبرزها:
- انخفض معدّل الإشغال في فنادق العاصمة من فئة 4 و 5 نجوم من 36.8 في المئة إلى 19.7 في المئة. وفقًا للمسح المعياري لفنادق "إرنست ويونغ" في الشرق الأوسط.
- انخفض العدد التراكمي للمسافرين في مطار بيروت الدولي بنسبة 6.34 في المئة، ليصل إلى 1,784,786 مسافراً إلى نيسان 2024.
- تراجع عدد الزوار القادمين بنسبة 13.52 في المئة في الربع الأول من هذا العام، ليصل إلى 237633 إلى آذار، مقارنة بـ 274787 حتى آذار 2023، بحسب بيانات وزارة السياحة.
- انخفض إجمالي نشاط الحاويات، بما في ذلك إعادة الشحن على نحو طفيف، بنسبة 0.81 في المئة على أساس سنوي ليصل إلى 178,946 حاوية 20 قدماً.
- انخفض إجمالي عدد الشيكات المقاصة في النظام المالي اللبناني بشكل ملحوظ من 190,418 شيكاً حتى نيسان 2023 إلى 75,294 شيكاً حتى نيسان 2024.
- تراجع الفائض في ميزان المدفوعات من قرابة 1.2 مليار دولار في الفصل الأول من 2023، إلى 442.5 مليون دولار للفترة نفسها من العام الجاري.
- انخفض إجمالي رخص البناء على أساس سنوي بنسبة 11.07 في المئة ليصل إلى 2956 رخصة في نيسان/ 2024 وفقاً لبيانات نقابتي المهندسين في بيروت وطرابلس.
نجم عن هذه التطورات السلبية تراجع المبيعات (الطلبيات الجديدة) التي تعتبر المكوّن الرئيس للمؤشر وتشكّل 30 في المئة. كما تسبّب انعدام الاستقرار في تأخير تسلّم المشتريات من المورّدين، وانخفض مخزون مستلزمات الإنتاج، ولم تشهد الأنشطة الشرائية أي تغيير.
تشهد المؤشّرات الاقتصادية الأساسية تراجعاً ملحوظاً منذ بداية العام الجاري
الحرب تقلّص الاستهلاك
على أرض الواقع يلحظ رئيس تجمع الشركات اللبنانية، الخبير الاقتصادي د. باسم البواب ميل المواطنين إلى عدم الانفاق على كلّ ما هو ثانوي وغير ملحّ ويمكن تأجيله. "إذ أصبحت المشتريات تقتصر على الأساسيات من مواد غذائية ومنتجات ضرورية نتيجة ضبابية المشهد الجيو-سياسي، وصعوبة التوقّع بالمسار الذي قد تأخذه الحرب الدائرة رحاها على قطاع غزة وجنوب لبنان منذ ثمانية أشهر". ومن الطبيعي، برأي البواب، أن "يتراجع الاستهلاك والطلب على الكماليات وتنفيذ المشاريع والاستثمار في ظلّ حالة الإبهام وعدم اليقين. وهو الأمر الذي يرتدّ مباشرة على الإنتاج في الشركات والمخزون". وممّا فاقم الأمر سوءاً، بحسب البواب، هو "تراجع قدوم السياح والمغتربين الذين يرفعون الطلب بشكل تلقائي على مختلف السلع والخدمات، وتجميد جميع المبادرات الفردية التي لها علاقة ببناء العقارات وتجديدها والقيام بأعمال الصيانة الضرورية، وتنفيذ مشاريع البنى التحتية". وتؤثّر هذه العوامل مجتمعة على الصرف. وذلك على الرغم من تحسّن القوة الشرائية عند المواطنين بعد تصحيح الرواتب والأجور في القطاعين الخاص والعام، وتثبيت سعر الصرف والحدّ من تلاعبه، وتراجع التضخّم إلى 60 في المئة بحسب الإدارة المركزية للإحصاء المركزي. إلّا أنّه، يا الأسف فإنّ المؤشرات الإيجابية على صعيد سعر الصرف وانخفاض التضخّم وزيادة القدرة الشرائية، ابتلعها "ثقب الحرب الأسود"، وهذا ما أدّى إلى تفاقم المشهد الاقتصادي السلبي، المترافق مع إعراب معظم القطاع الخاص عن خوف من القادم من الأيام.
أمّا بالنسبة إلى التوظيف الذي لم يشهد أي تغيير، فإنّ إطالة فترة اللا يقين واستمرار مؤشّرات مديري المشتريات في التراجع سيهددانه بالتحوّل إلى سلبي. فالمؤسسات تفضّل المحافظة على اليد العاملة الماهرة التي استثمرت بها مادياً وتقنياً تلى مدى طويل، ولا تتخلّى عنها إلّا عند تفاقم المشاكل ووصولها إلى حدّ يصعب معه الاستمرار. وفي هذه المرحلة يؤدّي ارتفاع نسبة البطالة إلى تراجع الطلب، وبالتالي انخفاض الإنتاج بالمؤسسات... ويدخل الاقتصاد في حلقة مفرغة.
مرّة جديدة، يفوّت لبنان فرصة الاستفادة من مؤشّرات اقتصادية إيجابية كان قد توقعّها مصرف "غولدمان ساكس" الاستثماري إلى العام 2026، ويدخل مرحلة من الترقّب المبهم المكبّلة بحبال الخوف الغليظة.