يُظهر تسلسل الأحداث منذ العام 2019 إلى اليوم أنّ الاستحقاقات الإقليمية كان لها دور كبير في عملية الانهيار التي ضربت لبنان على كلّ الأصعدة، من دون التغافل عن الدور المحوري للأداء السياسي المحلّي في زعزعة المقوّمات الداخلية للوطن، والذي لو كان على المستوى المفترض لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
هذه المُقدّمة هي للقول إنّ ما ينتظر لبنان في المرحلة المُقبلة (خصوصًا على الصعيد الاقتصادي) هو رهان الملفات السياسية الإقليمية، وعلى رأسها الصراع مع العدو الإسرائيلي وملف النزوح السوري وملف النزوح الفلسطيني الذي تُنفّذه بالقوة الماكينة العسكرية الإسرائيلية.
التحليل يُظهر أن لبنان عُرضة لأربعة أنواع من الهجمات الخارجية والداخلية، وبالتالي، يتحمّل وسيتحمّل المواطن نتائجها، خصوصًا على الصعيد المعيشي:
أولًا – الحصار الاقتصادي الدوليّ غير المُعلن على لبنان، والذي بدأ في النصف الثاني من العام 2019 مع التضييق على القطاع المصرفي، واستمرّ من خلال تأجيج الصراع الداخلي ومنع الحلول التي كانت من الممكن أن تنقذ لبنان مما هو فيه الآن. بالطبع، فإنّ السبب الرئيسي لهذا الحصار غير المُعلن يبقى الثمن السياسي الذي يجب على لبنان دفعه في الملفات الإقليمية، كترسيم الحدود مع العدو الصهيوني والنزوح السوري وقريبًا حصّة لبنان من النزوح الفلسطيني الذي سبّبته آلة الدمار الإسرائيلية في غزّة.
ثانيًا – المواجهة العسكرية على الحدود الجنوبية، وهي تأتي ضمن سياسة "العصا والجزرة" عبر التضييق على لبنان والضغط عليه في هذه الملفات الإقليمية التي قد تُظهر فعّاليتها بسبب الارتهان للخارج، ولكن أيضًا بسبب ضعف المقوّمات المعيشية والاقتصادية والبنى الضرورية لقيام الحروب. فالحرب بحاجة إلى ملاجئ وأمن غذائي وبنية تحتية صحّية قادرة على مواجهة العدوان، وهو ما لا يمتلكه لبنان لا من قريب ولا من بعيد.
ثالثًا – الميليشيات الإرهابية المُتطرّفة والجرائم المالية التي تجد، في حال الفوضى هذه، أرضًا خصبة للظهور والتغلغل في المُجتمع، وهذا ما يضع لبنان في مواجهة واضحة مع المُجتمع الدولي، وهو الذي يعتمد في إيراداته (تحاويل المغتربين) واستهلاكه (الاستيراد) على هذا المُجتمع.
رابعًا – الصراع السياسي الداخلي والفساد اللذان، كما في الحالة السابقة، ينتعشان في ظلّ الفوضى القائمة، إذ نرى كلًّا يُغنّي على ليلاه من دون الأخذ في الإعتبار المصلحة العامة ومُعاناة الشعب.
التداعيات على المواطن اللبناني لهذه الجبهات الأربع كبيرة. فمن تردّي الوضع المعيشي إلى تآكل الاقتصاد والبنى التحتية، وصولًا إلى الهجرة، مرورًا بالتفلّت الأمني والجريمة المُنظّمة وغياب المُحاسبة... هذه كلّها عوامل تضرب الكيان اللبناني وتؤدّي إلى تراجعه على الصعيد الديموغرافي والاجتماعي والاقتصادي.
كلّها عوامل تضرب الكيان اللبناني وتؤدّي إلى تراجعه على الصعيد الديموغرافي والاجتماعي والاقتصادي.
وإذا ما نظرنا إلى الاتفاق الأخير على الطريق الذي يربط الهند بأوروبا مرورًا بالخليج والأردن وإسرائيل، نرى أنّ لبنان أُقصي عن الخارطة الإستراتيجية الاقتصادية الإقليمية لمصلحة العدو الإسرائيلي. وهنا يلعب الفساد المُستشري والارتهان للخارج وضعف السياسات الاقتصادية في لبنان دورًا أساسيًا في هذا الأمر، إذ عجزت القوى السياسية التي تقود البلد منذ أكثر من عقدين عن إعفاء لبنان من هذا الآتون المُدمّر للكيان اللبناني، لا بل، على العكس، انغمست في الوحول الإقليمية وجلبت معها الويلات إلى لبنان.
على هذا الصعيد، لم تأتِ كلمة المبعوث الفرنسي لودريان الذي قال إنّ "لبنان السياسي سينتهي ولن يبقى منه سوى لبنان الجغرافي، أي أرض بلا دولة"، من لا شيء! فهي تُمثّل وصفًا لما ينتظر لبنان في المرحلة المقبلة إذا "لم يُنفّذ الرغبة الدولية" مع ما يواكب ذلك من أثمان اقتصادية سيدفعها، وفوضى أكبر مما نعيشها حاليًا إذا لم يستجب لبنان للإرادة الدولية.
سيناريو التطورات السلبية على الاقتصاد اللبناني كنتيجة لعدم الامتثال للرغبة الدولية، مُتشعّب، وقد يتم الذهاب به بعيدًا إذا أردنا تخيّل الأسوأ. فالتهديد الدولي بوضع لبنان على اللائحة الرمادية (ومن يدري قد تكون السوداء!) سيؤدّي إلى ضرب الاستيراد الذي يعتمد لبنان عليه حتى الساعة بأكثر من ثمانين في المئة. كذلك سيؤدّي الأمر إلى تعقيدات مع المصارف المراسلة التي يُعتمد عليها لفتح اعتمادات الاستيراد، بحكم أنّ هذه المصارف لا تُريد تخفيض تصنيفها الائتماني، وبالتالي، تُفضّل قطع العلاقة مع المصارف اللبنانية. ومن الأضرار المباشرة أيضًا انخفاض التحاويل إلى لبنان والتشدّد، أو حتى رفض قبول تحاويل إلى الخارج. ولعلّ الأخطر في ذلك كلّه هو التعقيدات التي قد تشمل عملية الاستيراد، والتي قدّ تؤثّر على طبيعة المُجتمع اللبناني وتجعله في مصاف المجتمعات الخاضعة للعقوبات، وهو ما سيزيد بدوره الهجرة.
وفي ظلّ رفض لبنان الانصياع للإرادة الدولية، قد يتمّ كذلك حرمان لبنان من العديد من الفرص الاقتصادية، مثل المشاركة في إعادة بناء سوريا، وتفادي المرافئ اللبنانية كخط وصل بين الشرق والغرب، وتوجّه الاستثمارات إلى دول أخرى...
لكن هل يعني هذا أنّه يجب على لبنان القبول بكلّ ما يطلبه الغرب من توطين للنازحين ومن تطبيع مع العدو ...؟ الجواب بالطبع لا. لكن يجب معرفة أنّ الأداء السياسي والاقتصادي الذي مارسته القوى السياسية على مرّ عقود، لم يبنِ دولة تتمتع باكتفائها الغذائي والطاقوي بالحدّ الأدنى. لا بل على العكس، تمّ هدم مقوّمات الدولة بكلّ ما للكلمة من معنى، وهو ما يعني أن للبنان خيارين: إمّا القبول بالشروط الخارجية، وإمّا العيش في ظروف قاسية كجميع الشعوب الخاضعة للعقوبات (سوريا، إيران، فنزويلا...). وبوجود أصحاب قرار خاضعين للابتزاز الدولي، هناك احتمال أن تكون الأيام المطلّة قاسية اقتصاديًا ومعيشيًا على لبنان.