سحب المودعون، أو بالأحرى الجهات المدافعة عن حقوقهم، مجموعة التعاميم 158 و166 من "فترينات" العرض، وأنزلوا مكانها "مجموعة" الدولار البنكي. "المثير" في عروض الواجهات هذه، لا يقتصر على سرعة التبدّل مع تغيّر المواسم المنفعية فحسب، حتّى قبل تحقّق المنفعة من استهلاكها، إنّما يمتدّ إلى تكريس وجود أصناف أقرب إلى الهذيان. فما معنى الدولار البنكي؟ ومن سوّق التعريف المناقض له: "فريش دولار"؟ ولماذا يتحتّم على المودعين سحب أموالهم بقيمة أقلّ من الثلثين عن قيمتها الحقيقية؟ إنّها أحاجي الأزمة اللبنانية، التي عرف المسؤولون خباياها، واستمرّوا يتجاهلون الحلّ للعام الرابع على التوالي.
في العلن، ينقل "الغيارى" على مصالح المودعين، عن المسؤولين في السلطة النقدية، رفضهم أيّ إجراء غير قانوني في حقّ المودعين من حيث اعتماد سعر صرف للسحوبات النقدية، غير السعر المعتمد في مصرف لبنان؛ 89500 ليرة. ينقلون هذا الرأي منذ خمسة أشهر، تاريخ توقّف العمل بالتعميم 151 السيّىء الذكر في 31 كانون الأول 2023، على وجه الدقة. أمّا في السر فتتكثّف الاجتماعات والمشاورات بين السلطتين النقدية والمالية، وطبعاً السياسية من خلف الأخيرة، للاتفاق على سعر صرف "لا يميت" المصارف، لكنّه من المؤكد يضمن استمرار "إفناء" الودائع. وتُجمع مختلف الآراء على أنّ الرقم سيكون بين 25 و30 ألف ليرة.
الاستثناء يتحوّل قاعدةً
المراحل الأربع التي مرّ بها سعر صرف السحوبات النقدية من الحسابات المصرفية بالدولار، كان يمكن بلعها، ولو أنّها علقت في "مريء" تحميل المودعين خسائر باهظة. فعندما قرّر الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة في نيسان 2020، إصدار التعميم 151، المتعلّق بتنظيم إجراءات السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الأجنبية، ذُكر في مستهل التعميم بوضوح أنّ هذه الاجراءات استثنائية، هذا أولاً. أمّا ثانياً والأهمّ، فإنّ سعر صرف الدولار المعتمد كان حتى شباط 2023 أعلى من سعر الصرف الرسمي، وموازياً له من شباط 2023 إلى مطلع العام الجاري وإقرار موازنة العام 2024. وعليه، تحوّل الاستثناء بعد أكثر من 4 أعوام على الانهيار قاعدةً، في حين أصبح سعر الصرف الرسمي المعتمد بين مصرف لبنان والمصارف، والتي تحدّد الدولة على أساسه رسومها وضرائبها، أعلى بما لا يقاس مع سعر 15 ألف ليرة المعتمد حالياً في المصارف، وحتّى مع اعتماد السعر المتداول والذي يراوح بين 25 و30 ألف ليرة.
الخشية على التضخّم غير مبررة
نظرياً، تخشى السلطة النقدية من عودة التضخّم إلى التحليق إنْ حصل تسديد الودائع بالليرة على سعر صرف السوق وبالسقف نفسه الذي كان معتمداً إلى نهاية 2023. فتسديد 1600 دولار على سعر صرف 89500 ليرة، بدلاً من 15 ألف ليرة، يرفع قيمة السحوبات الشهرية لكلّ مودع من 24 مليون ليرة إلى 143 مليوناً و200 ألف ليرة. وبالتالي، يشكّل هذا طلباً هائلاً على الدولار بشكل مباشر وغير مباشر، من خلال زيادة الاستهلاك. ويدفع حتماً إلى المزيد من التدهور في سعر الصرف ويقوّض كل الزيادات التي حصل اليها موظفّو القطاع العام. لكن في المقابل فإنّ تسديد 268 دولاراً على سعر صرف 89500 ليرة، لا يترك أيّ تضخم لأنّ المبلغ المدفوع بالليرة يوازي المبلغ الذي كان يدفع سابقاً، أي 24 مليون ليرة. وهو حتماً يرضي المودعين، لأنّه يلغي "الهيركات"، أي يحدّ من خسارة ودائعهم، وهو أكبر جدّاً
من مبلغ 150 دولاراً الذي يدفع بحسب التعميم 166 إلى المودعين الذين تشكّلت ودائعهم بعد تشرين الأول 2019، والذين قبلوا به لا بل رحّبوا به. فلماذا لا يعتمد سعر صرف السوق لسحب الودائع بالدولار مع تخفيض السقف إلى ما بين 250 و300 دولار؟
الأسباب الحقيقية الكامنة وراء التصدّي لتحرير سعر صرف السحوبات البنكية
تجيب مصادر مصرفية أن هناك سببين يمنعان تحرير سعر صرف السحوبات من الحسابات الدولارية، الأول متعلّق بمصرف لبنان والثاني متعلّق بالمصارف ومصرف لبنان.
في ما يتصل بمصرف لبنان يسود اعتقاد منطقي بأنّ اعتماد سعر صرف السوق للسحوبات من الحسابات الدولارية، سيزيد الكتلة النقدية بالليرة وإنْ خُفِّض سقف السحوبات 280 دولاراً تعادل 24 مليون ليرة. ذلك أنّ هناك الكثير من المودعين لم يعمدوا خلال السنوات الماضية إلى السحب من ودائعهم لأنّ نسبة الاقتطاع كانت كبيرة جداً، وتعادل في الكثير من الأوقات 86 في المئة من قيمة الأموال المسحوبة. وهذه الفئة ستقدّم على السّحب في حال إلغاء "الهيركات"، وبالتّالي قد تشكّل خطراً على التضخّم "inflation"، وتقوّض كلّ الجهود التي يبذلها المركزي للتخفيف من حدّة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية.
أمّا في ما يتعلق المصارف، فإنّ تحرير سعر صرف السحوبات يعني ببساطة وقف استنزاف الودائع، أو تباطؤه في أحسن الأحوال. وهذا ما يحرمها من التخلّص من أكبر قدر ممكن من المطلوبات قبل بدء عملية إعادة الهيكلة.
ما يؤكّد صحّة هذه النظرية ما نشرته "الدولية للمعلومات" من وقائع تفيد بتراجع الودائع بالعملات الأجنبي في مصرف لبنان من 123.2 مليار دولار في نهاية العام 2018 إلى نحو 90.4 مليار دولار في العام 2024. أي أنّه جرى تذويب 32.8 مليار دولار من الودائع في غضون 5 سنوات. جزء كبير منها ذاب نتيجة السحب بأسعار وهمية.
إزاء ما تقدّم، يبدو واضحاً أنّ ما يقال في العلن مخالف لما يُضمر في الخفاء. والأسوأ أن رفع سعر صرف السحوبات إلى ما بين 25 و30 ألف ليرة مقابل الدولار سيترافق مع تخفيض حتمي للسقوف وتوزيع المبلغ بين النقدي وحساب البطاقة. وفي ظلّ فقدان الثقة بالنظام المصرفي، فإنّ قلّة من المحالّ ستقبل بالبطاقات، وهذا يُفاقم مشكلات المودعين ويكبّدهم مزيداً من الخسائر.