فشلت التحركات الشعبية الاعتراضية ضد النظام القائم، والذي تسبّب بالأزمة الاقتصادية اللبنانية، فشلاً ذريعاً في تحقيق العدالة الاجتماعية. صحيح أنّ الانهيار وحّد الغالبية الساحقة في صفوف العوز والحرمان، ولكنّه عمّق الهوّة بين الأغنياء والفقراء. وأتت السياسات النقدية، التي تُركت لها الساحة بدايةً، بطولها وعرضها، لتعدم فرص ردم الفروق، وتعلّق المزيد من المشانق على منصّة اللاعدالة.
الأزمة على فظاعتها، كانت أخفّ وطأة من النتائج المترتّبة على طريقة إدارتها. فالفوائد الفاحشة التي دُفعت على سندات الخزينة في السنوات التي سبقت الانهيار، والهندسات المالية العجيبة، وضعت في حسابات "قلّة" قليلة من المحظيين ما لا يقلّ عن 60 مليار دولار. وأدّى عدم الإقرار الفوري لـ "الكابيتال كونترول" بعد التعثّر، إلى تهريب "قلّة" حوالى 20 مليار دولار من أمام جميع المودعين. وأفضت سياسة الدّعم إلى تربّح "قلّة" أخرى من المليارات على حساب المودعين وجميع المواطنين. وأسهمت الاحتكارات، ولا سيّما في سوق استيراد المحروقات المقسّم على 12 شركة، في تحقيق "قلّة" لأرباح لا تقلّ عن 200 مليون دولار في السنة. ودفع السماح بتسديد القروض على السعر الرسمي إلى تحقيق "قلّة" لربح قارب 30 مليار دولار من الثروات. وأتت صيرفة لـ "تعمي" هذه السياسيات، وتضيف إلى رصيد "قلّة" جديدة، و/أو مشتركة، حوالى 5 مليارات دولار، بدلاً من ان "تكحّلها" بدعم الطبقات الفقيرة. وقد أدّت هذه الفظائع إلى انهيار سعر الصّرف وارتفاع التضخّم إلى نحو 6000 في المئة. فافتقر الجميع، وتشكّلت من هذه الأقلّيات "طبقة الأسياد"، بحسب الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. والبقية "عبيد".
تصدّع الطبقات
قبل العام 2019، كان اللبنانيون موزّعين على ثلاث طبقات: الطبقة الوسطى تشكّل حوالى 70 في المئة من السكّان، والغنيّة 5 في المئة، وكان هناك نحو 25 في المئة من الفقراء. أمّا اليوم فقد اختفت الطبقة الوسطى، وحلّت مكانها طبقة فقيرة عمادها 99 في المئة من المقيمين، تخدم 1 في المئة من فاحشي الثراء، الذين لا يتجاوز عددهم 50 ألفاً.
هذا الواقع يضع اللبنانيين، بحسب شمس الدين الذي كان يتحدث في "ندوة الأجور والحماية الاجتماعية" التي نظمها الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان، أمام ثلاثة خيارات:
- الموت، بسبب عدم القدرة على تأمين ما يكفي من الغذاء والعجز عن الاستشفاء.
- الهجرة. إذ وصل عدد الذين تركوا لبنان خلال العام 2023 إلى 181 ألف لبناني، 70 في المئة منهم في الخانة العمرية بين 25 و35 عاماً.
- الثورة، وهو خيار مؤجّل في أحسن الأحوال، إن لم يكن مستحيلاً.
الحدّ الأدنى للأجور في صلب اللاعدالة
يتمثّل جوهر المشكلة في انعدام النية بإصلاح الأجر، ولا سيما في القطاع الخاص، وبقائه أقلّ بكثير من حجم ارتفاع الأسعار. وذلك على الرّغم من دولرة الأسعار، وعودة المؤسسات إلى وضع الأسعار نفسها التي كان معمول بها قبل الانهيار، إن لم يكن أعلى. ولفهم الموضوع بشكل منطقي وعلمي ينطلق شمس الدين من مقارنة الحدّ الأدنى الأخير للأجور الذي حدّدته لجنة المؤشّر أخيراً بـ 18 مليون ليرة، مع المادة 41 من قانون العمل التي تنص على أنّه "يجب أن يكون الحدّ الأدنى من الأجر كافياً ليسدّ حاجات الأجير الضرورية وحاجات عائلته، وأن يأخذ بعين الاعتبار نوع العمل، وأن لا يقل عن الحدّ الأدنى الرسمي". وانطلاقاً من هذا التعريف فإنّ تصحيح الأجور يجب أن يتمّ بناء على أمرين:
1- إمّا نسب التضخّم. وقد سجّل الإحصاء المركزي ارتفاع التضخّم خلال الأعوام الماضية على الشكل التالي:
- 2.9 في المئة في العام 2019
- 84.9 في المئة في العام 2020
- 154.8 في المئة في العام 2021
- 171.2 في المئة في العام 2022
- 221.3 في المئة في العام 2023
ووفق هذه النسب يجب أن يكون معدّل الأجور، أقلّه، 50 مليون ليرة.
2- وإمّا على أساس التكاليف المعيشية المحدّد لأسرة نموذجية مؤلفّة من 4 أُفراد على الشكل التالي:
* إيجار المسكن 150 دولاراً، أو 13 مليوناً و500 ألف ليرة.
* الكهرباء من مصدر واحد هو مؤسسة كهرباء لبنان، بمعدل استهلاك 200 كيلوواط: 4.5 مليون ليرة
* اشتراك مياه بمعدل 1.1 مليون ليرة شهرياً على أساس أن الاشتراك السنوي 13 مليوناً و270 ألف ليرة.
* مياه الشفة بقيمة 950 ألف ليرة، بمعدل 6 ليترات في اليوم.
اتصالات 800 ألف ليرة.
* سلّة غذائية بمعدل 240 دولاراً أو 21 مليوناً و600 ألف ليرة.
* مواصلات 3.5 مليون ليرة، عبارة عن صفيحتي بنزين.
* تعليم في المدرسة الرسمية، وليس في الخاصة.
* ألبسة وأحذية وقص شعر... 25 دولاراً أو نحو مليونين و250 ألف ليرة.
* حالات طارئة صحية لا تتطلب دخول المستشفى، وغير صحية.
وعلى هذا الأساس، يجب أن يكون الحدّ الأدنى 52 مليون ليرة وليس 18 مليوناً.
مراكمة الربح على حساب الأجر
حجّة أصحاب العمل بعدم إعطاء الأجر العادل هي تراجع الأعمال، في الشكل. وعدم الرغبة في دفع ما سيترتّب عليهم من مستحقّات للضمان الاجتماعي، في المضمون. ولا سيما تعويض نهاية الخدمة الذي يعطى على أساس الراتب الأخير مضروباً بعدد السنوات بحسب معادلة معينة. وللفصل طالب شمس الدين أصحاب العمل بـ "فتح دفاترهم لمعرفة حقيقة الأرقام التي يحققونها، والتي من المتوقّع أن تكون قد عادت إلى ما كانت عليه قبل الانهيار. في حين أن الرواتب والأجور ما زالت تشكّل 40 في المئة ممّا كانت عليه في أحسن الأحوال". ولعلّ أخطر ما يواجه هذه الفئة من الرواتب المتهاوية، هو رفع التجار للأسعار في محالّ البيع بالتجزئة 3 أضعاف عن سعر الجملة عند الاستيراد. وهناك لائحة متنوعة من القهوة والشاي والمعلّبات ومعجون الاسنان... وغيرها الكثير من الأصناف، وهذا ينطبق أيضاً على السلع الزراعية التي تباع بأضعاف مضاعفة عن القيمة التي يعتمدها المزارعون لدى البيع.
النتائج الفعلية لـ"تبخّر" الطبقة الوسطى لا تتمثّل في معدّلات الفقر الآنية، إنّما في تراجع مستوى التعليم وخسارة لبنان لأحد أهمّ ميزاته التفاضلية، سواء استخدمت هذه الخبرات في الخارج ونتج منها المليارات من التحويلات، أم في الداخل وتوليد النمو والتنمية. وإذا ما أضيفت هذه الخسارة إلى التراجع في شتّى ميادين الخدمات من سياحية ومصرفية واستشفائية، فإنّ لبنان "الفكرة" ذاهب إلى الزوال.