تحطّ "لعنة" الحدود "السائبة"، مع بداية كلّ موسم زراعي، في أراضي المزارعين اللبنانيين المروية بـ "دموع" العيون. تسيُّبها في الحالات المتّصلة بتصدير المنتجات الزراعية واستيرادها، غالباً ما يكون نتيجة قرارات مركزية بيروقراطية، وأحياناً كثيرة نتيجة مخالفات موضعية. وفي الحالتين يدفع المزارعون، وتالياً الاقتصاد، ثمن "تملّق" المسؤولين اللبنانيين الدول الشقيقة والصديقة، على حدّ قول رئيس تجمّع مزارعي البقاع إبراهيم الترشيشي. وتقاعسهم في الدفاع عن حقوق مواطنيهم، وعدم سهرهم على فتح أسواق جديدة.
يمكن اختصار مشكلة المزارعين في ربيع العام 2024، بتدنّي أسعار المنتجات عن كلفة الإنتاج. الأسباب الكامنة وراء هذه المشكلة القديمة الجديدة تبدو من النظرة الأولى ظرفية، تتصل بإشباع الأسواق المحلية بالبضائع الأجنبية، والعجز عن تصدير المنتجات الوطنية نتيجة ظروف لوجستية. بيد أنّ التمّعن أكثر في ذرائع الخسائر التي يُنكب بها القطاع الزراعي سنوياً، يُظهر أنّ المشكلة بنيوية، لا يمكن حلّها بمداهنات "تبّويس اللحى" لتمرير شحنة من هنا وتأخير دخول شحنة من هناك، كما يجري في كلّ عام بعد إعلاء المزارعين الصرخات.
مع بداية اقتلاع موسمي البطاطا والبصل من سهول عكار، اصطدم المزارعون بامتلاء الأسواق بالبطاطا والبصل المصريين. فتراجع سعر مبيع كيلوغرام البطاطا اللبنانية إلى 20 سنتاً بعدما كانت البطاطا المصرية خلال الأشهر الماضية تباع بـ 50 سنتاً. كما تدنّى سعر مبيع البصل اللبناني إلى 25 سنتاً، بعدما كان يباع البصل المستورد بدولار. وهو الأمر الذي لا يشكّل خسارة للمزارعين فحسب، بل إجحافاً بحقّ المستهلكين. هذا الخلل يعود، بحسب رئيس الجمعية التعاونية لمزارعي البطاطا في سهل عكار عمر سعيد الحايك، إلى تمنّع وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال عباس الحاج حسن عن تنظيم الكمّيات المستوردة من مصر كمّاً ونوعاً، في وقت سابق من دون وجود قانون واضح من مجلس النواب". لكنّ المفاجأة كانت بعودة الوزير إلى إصدار قرار، بعد فوات الأوان، بمنع استيراد البطاطا والبصل، إلّا بإجازة مسبقة صادرة عن وزارة الزراعة، في 9 نيسان الجاري، حين وقعت الكارثة".
مقابل تشريع الحدود اللبنانية أمام البضائع المستوردة من كلّ حدب وصوب، يستمرّ إقفال الحدود في وجه البضائع اللبنانية، حتّى من أقرب المقرّبين. فـ "سوريا التي فتحت باب استيراد البطاطا من عدّة دول إلى 15 أيارالمقبل، استثنت لبنان"، يقول إبراهيم الترشيشي. "علماً أنّ لبنان يستورد سنوياً أكثر من 200 طن من المنتجات الزراعية يومياً من سوريا". ويضاف إلى منع الاستيراد من لبنان استمرار سوريا بفرض ضريبة مرتفعة على الشاحنات اللبنانية التي تمرّ بأراضيها، سواء كانت محمّلة بالبضائع إليها، أو إلى غيرها من الوجهات العربية، وتقدر الضرائب مع الأتاوات والعمولات والاضطرار إلى إعادة تحميل الشاحنات مع الحدود العراقية والاردنية، بآلاف الدولارات. وهذا ما يفقد الشهية على التصدير من جهة، ويرفع من جهة أخرى كلفة البضائع اللبنانية، ويقلّل من قدراتها التنافسية في الأسواق العربية.
مقابل تشريع الحدود اللبنانية أمام البضائع المستوردة من كلّ حدب وصوب، يستمرّ إقفال الحدود في وجه البضائع اللبنانية، حتّى من أقرب المقرّبين.
مشكلة تصدير المنتجات الزراعية اللبنانية كانت قد أخذت منعطفاً أكثر خطورة قبل ثلاثة أعوام، قادها إلى "المهوار". ففي أواخر نيسان 2021 ضبطت المملكة العربية السعودية كمّية من مادة الكبتاغون المخدّرة في شحنة رمان منطلقة من لبنان. ونظراً لتكرار عمليات تهريب المخدرات في الشحنات، خصوصاً الزراعية، وضعف الرقابة على المعابر الحدودية اللبنانية، أخذت الرياض قراراً بوقف الاستيراد من لبنان، ومنعت حتى الشاحنات اللبنانية من المرور بأراضيها إلى بقية الدول العربية حيث كانت الشاحنات اللبنانية تأخذ طريق سوريا- الأردن وصولاً إلى السعودية. ومن الأخيرة تتفرع إلى بقية الدول الخليجية، كالإمارات، وسلطنة عمان، وقطر، والبحرين، وصولاً إلى اليمن. فتقطعت الأوصال ولم يعد بالإمكان الوصول إلى المقاصد الخليجية إلّا عن طريق البحر. وعلى الرّغم من ارتفاع كلفة النقل البحري والمدّة الطويلة التي يستغرقها، وإمكان تعرّض البضائع للتلف، لم يكن أمام المصدّرين اللبنانيين من حلّ غير انتظار الناقلات العالمية كـCMA CGM و Maersk و COSCO لنقل البضائع عبر قناة السويس مروراً بالبحر الأحمر وصولاً إلى الدول العربية. وبالفعل كانت بواخر الشركات الثلاث ترسو أسبوعياً في أحواض مرفأ بيروت وتحمل البضائع اللبنانية. "ولكن من بعد 7 تشرين الأول 2023، لم يعد يقصد لبنان إلّا شركة CMA CGM مرةً كلّ 20 يوماً، ومن دون إعلام مسبق"، يقول الترشيشي. وأصبح زمن الوصول إلى الدول الخليجية يتطلّب أحياناً كثيرة 60 يوماً، نظراً لإبحارها عبر رأس الرجاء الصالح بعيداً عن البحر الأحمر. في حين أنّ زمن الوصول سابقاً لم يكن يتجاوز 10 أيام إلى ميناء جبل علي في الإمارات العربية المتحدة".
إزاء هذا الواقع، "توقّف التصدير الزراعي من لبنان"، يقول الترشيشي. "الطريق البري مقفل كلياً، فيما الطريق البحري شبه مغلق. فتراجع التصدير من نحو 50 شاحنة في اليوم الواحد إلى نحو 5 شاحنات". وكلّ ما يصدّر اليوم من لبنان عبارة عن بعض شحنات الموز إلى سوريا، وشحنة واحدة أسبوعياً إلى كلّ من العراق والأردن محمّلة ببقايا الفواكه والخضر المبرّدة كالتفاح والحمضيات وغيرها. وقد دفع هذا الواقع إلى كساد المنتجات الزراعية اللبنانية وتدنّي أسعارها بشكل كبير.
الحلول
المسؤولية الأولى لحلّ هذه الأزمة المتفاقمة تقع على الدولة اللبنانية دون سواها. فمن جهة يتحتم على إداراتها المعنية اتخاذ موقف حاسم من حيث تطبيق الرزنامة الزراعية وعدم استقبال حبّة خضر أو فاكهة واحدة مع بدء مواسم الإنتاج المحلّية. وعليها من جهة ثانية حلّ مشكلات الرسوم والضرائب مع سوريا فعلاً لا قولاً، و"التوسّط لدى المملكة العربية السعودية للسماح بمرور الشاحنات اللبنانية من أراضيها، على غرار مختلف الدول الشقيقة"، يقول الترشيشي. "فقد اخذنا حقّنا من العقوبة بعد مرور ثلاث سنوات على عملية التهريب. مع العلم أنّ التحقيقات أثبتت براءة لبنان من العملية". كما يجب على المسؤولين العمل على فتح أسواق تصريف جديدة للمنتجات اللبنانية. وطالب الترشيشي "بجلسة حكومية يكون جدول أعمالها محصوراً بإغاثة القطاع الزراعي وإزالة كلّ المعوقات من أمام تصدير المنتجات الزراعية والعمل على فتح قنوات جدّية مع كلّ الدول العربية لتذليل العقبات من طريق حركة التصدير الزراعي".
في الوقت الذي تُغرِق فيه المنتجات الزراعية المهرّبة والمستوردة الأسواق اللبنانية، يظهر المنقذون وهم "يتفيّأون" في ظلال العجز عن ضبط الحدود، ونسج علاقات حسنة مع الدول الشقيقة والصديقة، واتخاذ مواقف تحمي القطاعات الانتاجية المحلّية. مع العلم أنّ حماية الإنتاج الوطني لا يفيد شريحة واسعة من المنتجين، إنّما يخفّض فاتورة الاستيراد ويزيد الواردات المالية بالعملات الأجنبية، وينعكس هذا إيجاباً على ميزان المدفوعات، واستتباعاً على الاستقرار النقدي والحد من انهيار الليرة.