عن سبتين اثنين عدّيا على إسرائيل بمرارة، الأول جاء إبان عملية طوفان الأقصى التي اختارت حماس توقيتها، في الـ7 من تشرين الأول الفائت، إذ دوّنت على صفحات التاريخ فصلاً جديداً من فصول المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية، والثاني جاء ما بعد منتصف ليل الـ13 من نيسان الجاري، كردّ فعل على فعل متهوّر أقدم عليه رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو حين قرر استهداف الأراضي الإيرانية (مبنى القنصلية في العاصمة السورية، دمشق).
وبما لا يقبل الشك، فإنّ السبتين المذكورين شكّلا تحولاً مفصلياً في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، إذ إنَّ حجم الهجوم الإيراني، وتنوّع المواقع التي استهدفتها أو حلّقت فوقها على الأقلّ الصواريخ والمسيرات الإيرانية، وضعا إسرائيل بجبروتها وعظمتها في موقع هشّ ما اعتادت شعوب المنطقة وحتّى العالم مشاهدته، ونقلت الصراع العسكري بين القوّتين الإقليميتين إلى مكان آخر من حيث المُكاشفة والإقدام والتصدّي، وهذا ما اضطر تل أبيب إلى استخدام أعلى تقنياتها الردعية المضادة، ليست تلك التي تمتلكها وحدها فحسب، إنّما استدعت تفعيل كلّ أنظمة الدول الحليفة لها عبر قواعدها في المنطقة، وأُولاها الولايات المتحدة الأميركية بما تمتلك من تقنيات عالية في هذا المجال، بالإضافة إلى فرنسا وبريطانيا، وهذا ما حوَّل ليل المنطقة، فجر الأحد الفائت، إلى نهار.
ومن المؤكَّد أنّ حالة التأهّب القصوى التي لم تفضح الإمكانات العبرية فقط، إنما إمكانات الدول المساندة التي أتينا على ذكرها أعلاه، مقابل ماذا؟ حفنة من المسيّرات والصواريخ الإيرانية التي لا تحظى بمنسوب عالٍ من التميز والمقرونة بالتقنيات العالية كون العملية كانت محدودة وفق ما أشارت إليه طهران، إذ لم يستخدم الإيرانيون أيّ سلاح مجهول المعالم بالنسبة إلى إسرائيل، وهنا مكمن الخطورة الذي سيجعل تل أبيب تتحسس رأسها مع مطلع كلّ نهار مقبل.
لا يمكن التغاضي عن نظرة بعض الشعوب العربية إلى أنظمتها
وبالتالي، باتت طهران تمتلك تصوراً واضحاً لخريطة كاملة عن كيفية عمل نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي والمساند له، فضلاً عن أماكن وجوده على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلّة، لا بل تعدّى ذلك إلى الكشف حتّى عما تمتلكه القواعد العسكرية الأميركية وغيرها في الأردن والخليج العربي، والتي لطالما كان مدعاة فخر تسوّق لها الدول الغربية وتبيعها للعرب كمنتجات رادعة لـ"التهديد الفارسي".
كذلك، في العلم العسكري لا يمكن غضّ الطرف عن المفاعيل الزمنية، أو بمعنى آخر الوقت الذي استغرقته عملية التصدّي للصواريخ، المتزامنة مع سرعة استجابة المجتمع المدني الإسرائيلي لصفارات الانذار والتحذيرات على مدى نحو أسبوعين قبل الاستهداف، ومدى خضوعهم كمواطنين إسرائيليين للأوامر العسكرية من دون تململ أو تمرّد لاحق، عقب سيناريو محتمل حتماً لن يكون مماثلاً، بل سيكون أكبر وأصعب، فضلاً عن التكاليف الإستراتيجية والقومية والمادية الباهظة الثمن، وهذا ما عبّر عنه نتنياهو أخيراً حين قال: "على إيران أن تعيش التوتر كما عشناه نحن".
توازياً، لا يمكن التغاضي عن نظرة بعض الشعوب العربية إلى أنظمتها، وخصوصاً تلك الأقرب إلى فلسطين لاعتبارات مجتمعية وجغرافية فرضتها سياسات التهجير والتقسيم منذ العام 1948. والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يمكن دولة مثلاً أن تعترض طريق صاروخ يمرّ بمجالها الجوي نحو عدو مجتمعها الأول إسرائيل؟ واكتفت على مدى نحو 4 أشهر بإلقاء المساعدات الغذائية على الفلسطينيين من الجو خلال الحصار. هل فعلاً كلّ ما ترجوه غزة وأهلها هو السلال الغذائية الملقاة عليهم من الجو؟ لا بل أكثر من ذلك لم تستطع بعض الدول إخفاء حرصها المتواصل منذ الـ7 من تشرين الأول الفائت، على إسرائيل وأمنها.
يبقى أن الفرضية التي تقول إنّ ما حصل فجر الأحد الفائت، مجرّد عرض مسرحي، هو فرضية فاقدة لأدنى معايير المعرفة المتعلّقة بكيفية تقييم الجيوش للإستراتيجيا مقابل التكتيكات على المسرح العملاني المبني أصلاً على جمع المعلومات الاستخبارية حول قدرات "العدو" ومقدّراته، خصوصاً إذا سلك هذا النوع من الصراع درب حرب الاستنزاف الطويلة في حال قرر نتنياهو الردّ على الردّ، فدائماً كان هو وحكومته يفضّلان الحرب المفاجئة والحاسمة، على عكس ما يفضّل العقل الإيراني البارد في إدارة صراعاته على موجة الاستنزاف الطويلة إن صحّ التعبير، والتي تحرم بدورها إسرائيل من قدرات الردع، وهذا أمر مكلف جدّاً تعجز إسرائيل وحدها عن تحمله.
وفي ظلّ الحديث عن اليوم التالي، لن يولد السلام المستدام في البقعة الجغرافية نفسها التي يعيش عليها الفلسطينيون في ظل أسوأ نظام فصل عنصري قمعي وإجرامي في العالم. وهم، يا للأسف، الخاسر الأكبر. أمّا الرابح الأول بالضربة القاضية حتى الساعة فهو إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، إذا ما استطاعت إدارة هذه الأزمة وهندسة مخرج يحفظ ماء الوجه الاسرائيلي، ويبقي إيران في قالب الدولة المردوعة، وهي نقطة سيعمل بايدن على كسبها علّها تنتشله من دركه الانتخابي الرئاسي.
يبقى الفلسطيني الذي فضّل الموت واقفاً على العيش راكعاً، الخاسر الأكبر
أمّا إيران فسيكون مشروعها النووي المشترك مع روسيا جُلّ ما تقرّش به نصرها على الكيان في سوق المنطقة العسكري، يقابله تسليح أميركي لإسرائيل أكثر حداثة، فضلاً عن الدعم الماديّ والدعم المعنوي الكبيرين المتمثلّين في تأييد من حلفاء أوروبيين وعرب كانوا فعلاً حلفاء في الخفاء، والآن في العلن.
ويبقى الفلسطيني الذي فضّل الموت واقفاً على العيش راكعاً، الخاسر الأكبر، فالجريمة الإنسانية التي ارتكبتها إسرائيل بحقّه ربما باتت في خبر كان، والمتحمّسون لغزة وأهلها يعتادون يوماً بعد يوم الهمجية حتّى بات خبر موت المئات جزءاً طبيعياً من حياتهم اليومية. فليرحم الله الـ35000 شهيد وما سبقهم وما سيتبعهم، والأمل معقود بالشفاء العاجل لأكثر من ضعفَيْ عدد الشهداء أولاً، ومن ثم انجلاء غبار هذه الحرب.