بين الفلسطينيين الذين كانوا على متن البوسطة في عين الرمانة في 13 نيسان 1975 وبين السوريين الذين سرقوا سيارة باسكال سليمان وقتلوه في 9 نيسان 2024، نصف قرن واللبناني هو الضحية.
قبل جريمة قتل سليمان كان كل شيء يوحي أنّنا مقبلون على حدث ما على الصعيد المحلّي، ولو كانت شرارته الأولى خارجية. كانت الأنظار مصوّبة نحو الجنوب والخشية من حدث يزيد الشرخ والانقسام زيادةً يمكن أن تؤدّي إلى صدام. قبل أسبوعين، كتبنا تحت عنوان « مع السلامة يا وطن » كأنّنا لا نزال عشية 13 نيسان 1975. كأننا لم نعش كلّ تلك المآسي والمجازر والأزمات.
كان القلق من أن تتحول القضية الفلسطينية مرّة جديدة سبباً لحرب أهلية، فإذا بحدث يتصل بالوجود السوري في لبنان يفتح الباب لرياح الغضب والفوضى والخوف على المصير. قبل 50 سنة، كان اللاجئون الفلسطينيون ومنظّماتهم المسلّحة في لبنان سبباً للانقسام الداخلي، الذي استحضر قوّات الردع العربية التي تحوّلت سورية، فتحول الوجود السوري إلى أزمة قائمة بذاتها أسفرت عن حرب تحرير، ولم تنته إلّا بعد سنوات طويلة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، أو هكذا ظننّا. وجود الجيش السوري في البلاد انتهى إلى نزوح نحو ثلاثة ملايين سوري إلى لبنان.
أشعلت الحرب على غزّة وتداعياتها فتيل الانقسام مجدّداً في بيروت، فحضر الفلسطيني مرّة أخرى كعامل تفجير. لكن ما لم يكن في الحسبان هو أنّ ملف النزوح السوري تطور من حجم شكوى استدعت زيارة الرئيس القبرصي إلى بيروت على خلفية تسلل النازحين بحراً إلى شواطئ بلاده، فيما يُصوّت البرلمان الأوروبي على عدم الموافقة على عودة النازحين السوريين إلى بلدهم، والمطالبة بحمايتهم في لبنان، ليصل الأمر إلى جريمة تحمل بصمات سورية في بلاد خائفة على مصيرها بكلّ أشكاله. ولم تعد القضية مجرد الخوف على هوية لبنان بل على حياة المواطن اللبناني وأمنه.
لكنّ « اللبناني الحربوق » يتمتّع بقدرة هائلة على اختراع البديل من الدولة، أو الانتماء إلى مشروع آخر أبعد وأكبر أو أضيق وأصغر. وكأنّ الوطن بشكله الحالي لا يرضيه وإن اختلفت الأسباب الكامنة خلف عدم الرضى. هي المفاضلة بين الدولة و »الاشتراك ». بين الشركة والمولّد أو الصهريج وصولاً إلى المقايضة بين الدولار الذي أخذته المصارف رهينة والدولار « الفرش ». يحضر اليوم مجدّداً ولو بصيغة أخرى مشروع « الوطن البديل ». تآكل الدولة وتحلّلها على صعيد الإدارة والمؤسسات عمّما حالة الشغور، فانتشرت ظاهرة « بالإنابة »، أي البديل. أمّا على صعيد الأمن فها هي بوادر الأمن المجتمعي ترتدي حلّة جديدة تعيد ضخّ الروح في ذكرى التنظيمات المحلّية وقادة الأحياء، وتحت عنوان مواجهة الدويلة وبدل الانخراط في مشروع الدولة تتظهّر مشاريع دويلات ومناطق.
كان الانقسام الوطني بين من حمل القضية الفلسطينية ولو على حساب لبنان حتّى ذهب ينادي بإحلال جيش الحرير الفلسطيني محل الجيش الوطني، وبين من أراد أن يكون جزءاً من الغرب في العالم العربي، وبين من دغدغ مشروع الوحدة العربية أو الإسلامية أحلامه، وبين من أراد أن يكون ولاية تابعة لسوريا، مشروع وطن بديل لكلّ طرف من الأطراف الداخلية، فيما للخارج أيضاً مشاريعه التي قد تلتقي مع البعض وتتصادم مع البعض الآخر. هي مشاريع لا تزال حاضرة كما النار تحت الرماد.
اليوم، بعد 50 سنة، يحضر السؤال هل عشنا تلك الحرب فعلاً أم كنا نتحضّر لهذه الحرب؟
حين يرتفع الصراخ يصبح الحوار لزوم ما لا يلزم. وحين تحضر لغة السلاح لا يعود هناك من جدوى لترجمة الوقائع. حين تتفلّت الغرائز ومشاعر الغضب المعزز بالخوف يصبح من الصعب مخاطبة العقل.
متابعة ما يحصل في غزة من قتل وتدمير وتهجير تؤكّد أنّ المسألة ليست في الحقيقة، ولا في من يرتكب الجرائم. المهم هو في القدرة على التوظيف في الفرصة التي وفّرتها الحرب للقضاء على مشروع الدولة الفلسطينية. تدور الحرب على مرأى منا، مباشرة خلف الحدود وتصاغ الروايات حول ما يجري على نحو ينسجم مع الرؤيا الغربية للموضوع. اندلعت الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975 بعد مواجهات ومناوشات على مدى سنوات. تتعدّد الروايات حول من يتحمّل المسؤولية. فللحقيقة أوجه عدّة، ولكن هناك مُسلِّمة أساسية هي « المواطن اللبناني ». ولا نقصد به هنا من يحمل بطاقة الهوية. المقصود هو ذاك المنتمي إلى الوطن فعلاً خارج حسابات الدين والمذهب والحزب والجماعة والعشيرة. لو كان المواطن اللبناني هو الأقدر على فرض وجوده لما وقعت الحرب. هي حرب الآخرين على أرضنا كما يقول البعض. ولكن الشعب اللبناني كان الأداة، كان البندقية والضحية. فلو أنه لم ينخرط في معارك الآخرين التي أصبحت معاركه لما كان لهذه الحرب أن تقع وتستمر.
اليوم، بعد 50 سنة، يحضر السؤال هل عشنا تلك الحرب فعلاً أم كنا نتحضّر لهذه الحرب؟
13 نيسان الحقّ على مين؟ السوريّ أو الفلسطينيّ أو اللبنانيّ؟