مئات ملايين الدولارات من القروض والهبات أُنفقت لمكافحة الفقر في لبنان منذ بداية الانهيار، ونسب الفقراء ترتفع باطّراد. مع كلّ إشراقة شمس ينضمّ أشخاص جدد ممن استنفدوا مدخّراتهم إلى قافلة أكثر "الآفات" إثارة للقلق على مستوى العالم. في حين يستنفر المسؤولون في المساء لاحتلال الشاشات، ومسابقة الفقراء على التذمّر من واقع الحال، و"علك" المقترحات نفسها التي لم "تملّح" الخطط والإستراتيجيات.
تقدّر اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) أن تكون نسبة الفقر المتعدّد الأبعاد قد ارتفعت من 42 في المئة في العام 2019 إلى 82 في المئة في السنوات التي أعقبت الانهيار. في حين ارتفع معدّل الفقر المدقع إلى 34 في المئة. هذه الأرقام تدعمها دراسة جديدة لليونيسف على عينة من 2153 أسرة تعيش في لبنان تحت عنوان "محاصرون في دوّامة الانهيار"- تشرين الثاني 2023، بيّنت أنّ 84 في المئة من العائلات اللبنانية تقترض المال من أجل شراء الأمور الأساسية الغذائية، و16 في المئة ترسل أولادها الذين هم دون 18 سنة إلى العمل، و81 في المئة من الأسر خفّضت إنفاقها على شراء الأدوية. والمفارقة أنّ هذه النسب شهدت ارتفاعات كبيرة مقارنةً بآخر تقییم مماثل أجرته اليونيسف في نيسان 2023. كما بيّنت الدراسة أنّ وضع العائلات السورية أكثر سوءاً، إذ أبلغت 52 في المئة من الأسر أنّ لدیھا أطفالاً لا یذھبون إلى المدرسة بسبب ارتفاع التكلفة التعليمية والمعيشية.
انهيار سعر الصرف سبب أساسيّ للفقر
على غرار أيّ مشكلة، فإنّ حلّ أزمة الفقر يتطلّب أولاً معرفة السبب. ومن ثم تقييم الحلول التي اعتمدت، فتبنّي سياسات أو خطط جديدة إذا أثبتت القديمة عدم جدواها. فارتفاع نسب الفقر في لبنان ليس قدراً، إنّما نتيجة عاملين أساسيين كبيرين"، يقول رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني: السبب الأول، هو انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، بعدما استهلك مصرف لبنان احتياطيات النقد الأجنبي، واستفحل في طباعة الليرات من أجل تغطية نفقات الدولة و"ليلرة" الودائع. هذا ما أدّى إلى التضخّم وفقدان الأجور بالليرة قيمتها الشرائية. والسبب الثاني هو احتكار الدولة للخدمات الأساسية من كهرباء وماء واتصالات ورفع أسعارها بشكل كبير جداً، من دون القدرة على تأمينها على نحو كاف، أو جودة عالية، وهذا ما اضطر المواطن إلى البحث عن أكثر من مصدر للحصول على هذه الخدمات".
ثلاث خدمات أساسية هي الكهرباء والمياه والاتصالات تستهلك شهرياً ما لا يقلّ عن نصف الحدّ الأدنى للأجور
انعدام الخدمات الأساسية وارتفاع تكلفتها
تأثير الخدمات الرديئة التي يدفع ثمنها اللبنانيون أضعافاً مضاعفة ليست تفصيلاً بسيطاً على ارتفاع معدّلات الفقر. فبحسب دراسة جديدة للبنك الدولي، يتبيّن أنّ "تخفيض تكاليف الكهرباء والاتصالات فقط، في دولة جيبوتي" سيؤدي إلى:
زيادة اجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 39.1 في المئة.
خلق 23 ألف فرصة عمل.
زيادة دخل الأسر بشكل كبير.
الحدّ من الفقر.
إذا أسقطنا هذا الواقع على لبنان، يتبيّن أنّ ثلاث خدمات أساسية هي الكهرباء والمياه والاتصالات تستهلك شهرياً ما لا يقلّ عن نصف الحدّ الأدنى للأجور، الذي رُفع أخيراً إلى 18 مليون ليرة. وعليه، فإنّ "تخفيض هذه التكاليف من خلال فتح السوق للمنافسة وإتاحة المجال لشركات القطاع الخاص للاستثمار في هذه الخدمات، يخفّض التكلفة بنسبة كبيرة جداً"، برأي مارديني. إذ لا يعود المشترك في الكهرباء والمياه بحاجة إلى مصدرين أو ثلاثة لتأمين هذه الخدمة. "وتخفيض تكاليف هذه الخدمات يؤدّي من الجهة الثانية إلى زيادة الاستثمارات في مختلف القطاعات الصناعية والسياحية والخدماتية والزراعية، ويخفّض تكلفة المنتجات الوطنية، ويزيد قدرتها التنافسية، وهو ما ينعكس زيادة في النمو الاقتصادي واستيلاد فرص عمل وتحسين الأجور".
الحلول المجرّبة أثبتت عدم جدواها
ما جُرّب في لبنان لمكافحة الفقر منذ بداية الانهيار اقتصر على "التسوّل" من الدول والجهات المانحة، حتّى قاربت قيمة القروض والمساعدات والهبات المليار دولار تقريباً. ومع هذا، تزداد أعداد الفقراء، ولا تتجاوز مفاعيل هذه المساعدات الأعوام الثلاثة حدّاً أقصى. وتواجه القروض، بالإضافة إلى تكلفتها الكبيرة، البيروقراطية ومحاولة المسؤولين تحقيق فوائد معنوية ومادية من خلالها، واقتصارها على عدد محدود من المحتاجين. وللمثال، فإنّ القرض الأول لبرنامج "أمان"، الذي كان يهدف إلى مدّ 150 ألف أسرة بحوالى 140 دولاراً كحدّ اقصى شهرياً انتهى بعد 18 شهراً، ولم يتجاوز عدد المستفيدين منه 93500 أسرة. مع العلم أنّ القرض الثاني للمشروع نفسه بقيمة 300 مليون دولار الذي وافق عليه البنك الدولي في أيار 2023، تأخر البرلمان اللبناني في إقراره حتّى كانون الأول 2023. وهو ما زال متوقّفاً بسبب اجتهاد النواب بإضافة جملة إلى القانون تقول: "تُنفّذ هذه الاتفاقية بناء على آلية يتمّ وضعها من قبل مجلس الوزراء"، وهذا ما رفضه البنك الدولي وأدّى إلى توقّف التمويل. أمّا برنامج دعم أكثر الأسر فقراً، فقد خفضت الدول المانحة قيمة المساعدات إلى نحو 75 ألف أسرة من 147 مليون دولار إلى 33.3 مليون دولار خلال العام 2024. وهو ما يمثّل تخفيضاً كبيراً سيؤثّر في قيمة المساعدات التي تتلقاها الأسر.
الحل في تحفيز النمو
العودة إلى "تجريب المجرّب"، بالاعتماد على القروض والهبات، لن تحلّ مشكلة الفقر في لبنان. ذلك أنّ الحلّ الوحيد هو "تحقيق النمو الاقتصادي"، بحسب ماردين. "الأمر الذي من شأنه زيادة نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي". وبحسب أرقام البنك الدولي، يتبيّن أنّ نصيب الفرد من الدخل القومي في لبنان انخفض من 5500 دولار في العام 2020 إلى 3450 دولاراً في العام 2021، وبنسبة بلغت 37 في المئة في غضون عام. وهذا ما يقودنا إلى ضرورة تحفيز النمو وزيادة الناتج من أجل تحسين الأوضاع المعيشية، لكنه لا يتحقّق إلّا باتّباع سياسة نقدية تقوم على وقف طباعة الليرات، وسياسة اقتصادية عمادها المنافسة في تقديم الخدمات، وسياسة مالية تعمل على تخفيف الضرائب والرسوم والتعويض عنها بمكافحة التهرّب والتهريب.
القطاع العام "عصب النظام السياسي"
يرى عميد كلّية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا الدكتور بيار خوري أنّ الدولة اللبنانية هي "شريكة مضاربة للقطاع الخاص"، تزيد عليه الرسوم والضرائب من أجل تمويل قطاع عام متضخّم بحاجة إلى إعادة الهيكلة. "وتؤدّي هذه العملية إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج في القطاع الخاص وتراجع قدرته التنافسية في الداخل والخارج، وبالتالي إلى تقلّص عدد المؤسسات وهجرتها. وكلّما حاول الاقتصاد تجاوز هذه العقبة التاريخية، عادت المشكلة إلى المربّع الأول، وعادت السلطة إلى استخدام النهج السابق نفسه لدعم القطاع العام قبل إصلاحه وتنقيته من الشوائب". وهذا يعود، بحسب خوري، إلى كون هذا القطاع "عصب النظام السياسي".
شبع فقراء لبنان وعوداً، وقروضاً سيدفعونها أضعافاً مضاعفة في المستقبل، ولا تزال أمعاؤهم فارغة. ولا يزال المسؤولون يتجاهلون الحكمة الصينية التي تقول: "أعط الفقير سنّارة وليس سمكة"، لأنّ الاستقلال الاقتصادي للمواطنين ورفاهيتهم يقلّصان نفوذ السياسيين وارتهان المواطنين لهم في التعليم والصحة والاستشفاء والتوظيف... وقسْ عليها خدمات بسيطة يدفعون ثمنها غالياً.