هي تلك الأم التي تسأل عن ولدها واصفةً إيّاه بحبّ، بخوف، بفقدان. تحكي قصصه لمراسلين لم تعد وسائل إعلامهم تهتم بأخبار من قُتل ومن أصيب ومن رحل، ولا بقصصهم. أصبحت الحكايات متشابهة، رغم قسوتها، ولكنّها المأساة نفسها. والشاشات تبحث عن قصص جديدة. لا بأس من أن يتحول سؤال تلك الأم مشهداً تمثيلياً في مسلسل من هنا أو مسرحية من هناك، لأنّ الواقع يصيب المشاهدين بالملل، في حين يصيب الغزّاويين في مقتل.
أمّهات غزة خسرن أمام مسلسلات رمضان. من يحتمل متابعة كلّ هذا الحزن، حتّى المشاهد التمثيلية الحزينة لم تعد تحقّق مشاهدة عالية. جوع أهل غزة لا بدّ أن يعكّر مزاج المآدب الرمضانية في غير مكان. لا عيد في غزة ولا احتفالات ولا سهرات إلّا تلك التي تبكي فيها الوالدة وليدها أو الأبناء أمهاتهم. وبعيداً عن غزّة تنتشر طقوس وعادات تتأرجح بين النوم والتخمة، ويصبح الإحساس بالجوع والفقراء ملصقات دعائية أو إعلانية بين وصلة طرب وأخرى.
تتشابه مشاهد الفقد في كل حرب، تتشابه الضحايا ويتشابه القتلة. تلك الطفلة التي تسأل عن والدتها وقد اختفت ملامح وجهها خلف التراب المجبول بالدماء. من ذا الذي انتزعها من حضن والدتها من تحت الأنقاض؟ من سمح لنفسه بإعادتها إلى الحياة لتواجه المصير نفسه في غارة أخرى ولو على سرير في المستشفى. وحتى لو خرجت فقد تموت جوعاً أو عطشاً أو برصاص جنود الاحتلال، وهي تنتظر دورها لتسلّم إعاشة أو رغيف خبز، وهي التي تحنّ إلى خبز أمها ولو لم تسمع يوماً صوت مارسيل خليفة ولا تعرف من هو محمود درويش ولا أنّه هو كاتب تلك الكلمات لأم فلسطينية.
غزّة، اليوم، أمّ مقطّعة الأوصال، تنزف دمعاً ودماً، جائعة، عطشى في صيام مفروض عليها بغضّ النظر عن دينها.
ماذا عن كلّ هؤلاء الأيتام في هذا العيد، أين هنّ أمهاتهم؟ عندما ترحل الأم يعود الرجال أطفالاً يشعرون باليتم، فكيف بالأطفال. هناك بين الركام من يبحث عن رائحة أمه، عن ذكرى حضنها، عن صوتها وضحكاتها على ندرتها في بلاد ملعونة لا تحب الفرح.
لا تكترث تلك الجدّة لمن أخذ قرار الحرب ولا لمن يتحمّل مسؤولية ما جرى أكان في 7 تشرين الأول من العام الماضي أو في العام 1948 أو في العام 1967 أو في كلّ الحروب والمعارك والقصف والدمار والتهجير والنزوح واللجوء. تلك الجدة تذكر كيف خسرت أهلها وبيتها وأشجار الزيتون وأرضها ووطنها. تذكر كيف أصبحت يتيمة ولم تكن تعرف بعيد الأم حينذاك، ولكنّها خسرت والدتها التي لم تحتفل بها. كما خسرت أخواتها بين نزوح ولجوء وهجرة. تلك الجدة التي خسرت أولادها بين أسر وقبر وقهر، قد تكون احتفلت مرات قليلة بعيد لم تعكّر صفوه غارات وقذائف ومواكب تشييع الضحايا. هي أمّ قبل أن تكون جدّة وتحنّ إلى من يناديها بتلك الكلمات التي تحيي قلبها "يمّا" أو "ياما" أو يا "أمي".
حين تنظر إلى غزة، اليوم، تراها كتلك الجدة، كتلك الأم، وقد خسرت أولادها بعدما دمّروا أحلامهم وسرقوا ألعابهم وباعدوا في ما بينهم. غزة، اليوم، أمّ مقطّعة الأوصال، تنزف دمعاً ودماً، جائعة، عطشى في صيام مفروض عليها بغضّ النظر عن دينها. أمّا موعد الإفطار فقبله ألف صلاة ودعاء وتضرّع وتمسّك بالحياة لعلّ فجراً جديداً يطلع.
رغم هذا كله، ولأنّه العيد تبقى أجمل الأمّهات غزّة التي انتظرت وتنتظر، فهل من عودة؟