على ضفاف حرب غزّة نبتت أدبيات وتعابير سياسية كان أبرزها تعبير "اليوم التالي" للتبصّر في المخارج والحلول والتوازنات التي ستُسفر عنها هذه الحرب مع ملحقاتها وامتداداتها الإقليمية من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان، وتقاطعاتها الدولية من الولايات المتحدة الأميركية إلى أوروبا وإيران.
جميع هذه القوى تلتقي على القول إن ما بعد 7 تشرين الأوّل 2023 لن يكون كما قبله، لكنّها تختلف في تقدير ماهيّة هذا التغيير وفقاً لموقعها ودورها في الحرب.
وحين سينجلي "اليوم التالي" عن تسوية جغرافية ديمغرافية سياسية مستدامة للمعضلة الفلسطينية الإسرائيلية، سيكون للمنطقة "أيامها التالية" أيضاً.
فـ"المحور الإيراني" يرى أنه حقق انتصاراً، أو هو على الأقل دخل مسار الانتصار، بمجرد صمود غزة وحيوية ردود أذرعه خصوصاً في اليمن وجنوب لبنان والعراق، بينما ترى إسرائيل مع مَن يساندها أن غزة أصبحت بحكم الساقطة عسكرياً وأن "حركة حماس" ستتحوّل إلى مجرد فصيل محدود القدرات والفاعليّة، ولا تستطيع إيران تعويمها برغم "المشاغلات" التي تحرّكها عن بُعد.
أمّا القوى العربية المتزنة والتي صقلتها تجارب الحروب العبثية، من مصر والأردن ومنظمة التحرير إلى السعودية وسائر الخليج، فإنها تنخرط في البحث الواقعي والعقلاني عن الحل العادل والممكن للقضية الفلسطينية بعد إخراجها من دائرة الاستغلال والمزايدات، وتخليصها من كرة الدم المتدحرجة.
وبات مرجّحاً أن "اليوم التالي" لا يمكن أن يكون على صورة الحلم الإسرائيلي التاريخي بتصفية الحقوق الفلسطينية شعباً وأرضاً، ولا على صورة الشعار الإيراني المزمن بإزالة إسرائيل من الوجود، فيسقط رفضهما المزدوج والمنسّق لحلّ الدولتين. وهذا ما سيفرض تحجيمهما وترشيد سياستهما بما ينسجم مع الترتيبات التي يتم رسمها كي تكون هذه الحرب، مهما طالت وتضاعفت مآسيها، آخر الحروب بين إسرائيل وفلسطين.
وحين سينجلي "اليوم التالي" عن تسوية جغرافية ديمغرافية سياسية مستدامة للمعضلة الفلسطينية الإسرائيلية، سيكون للمنطقة "أيامها التالية" أيضاً. وهي أيام بدأت طلائعها في مؤشرات الانكفاءات الإيرانية الثلاثة: منع "حزب اللّه" من توسيع الحرب برغم خسائره الموجعة، وسحب عدد من ضباط "الحرس الثوري" من سوريا، ولجم "كتائب حزب الله العراقي" عن استهداف القواعد الأميركية. أمّا استمرار طهران في تغطية عمليات "الحوثي اليمني" في البحر الأحمر وباب المندب فله حسابات دولية وإقليمية استراتيجية واقتصادية أخرى أبعد من حرب غزة. ولا شكّ في أن أزمة هذه المنطقة لها "يومها التالي" الخاص بعد انخراط الاتحاد الأوروبي في معالجتها إلى جانب واشنطن وحلفائها.
ويبقى أن للبنان "يومه التالي" أيضاً، والذي قد لا ينتظر أيام الآخرين بفعل التركيز الدولي الأممي العربي على حجب الحرب الخطيرة عنه وترتيب وضعَيه الجنوبي والداخلي بدون الربط المُحكم بينهما، وبدون انتظار انتهاء حرب غزة التي مدّدت لنفسها مؤقتاً بعد تعثّر مفاوضات الهدنة.
و"يوم لبنان" ذو شقَّين:
الأوّل، جنوبي اتضحت خطوطه في الترتيب الفرنسي الأميركي على مراحل ثلاث تبدأ بوقف النار، ثمّ انسحاب "حزب الله"، فتظهير الحدود وحل الخلاف على نقاطها العالقة (مزارع شبعا لاحقاً)، مع تشكيل لجنة رباعية لبنانية إسرائيلية فرنسية أميركية للإشراف على تنفيذ الخطة.
والثاني، داخلي رئاسي مع إعادة إنتاج السلطة، وهو معقود على همّة "اللجنة الخماسية" التي يتم إنعاشها تمهيداً لعودة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت، مع اتجاه واضح إلى أن يكون اليوم السياسي التالي مختلفاً عمّا سبقه من تفرّد بالسلطة ومصادرة قرارها الشرعي تحت ضغط السلاح.
وليس هناك أي مؤشّر يربط بين حلَّي الجنوب والداخل، ولا إلى أثمان سياسية لـ"الحزب" لقاء تنفيذه القرار 1701 والترتيبات الجنوبية. ولعلّ فكّ الرابط بينهما دفع طهران إلى إرسال وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان إلى لبنان في محاولة لتحصيل أي ثمن سياسي تخفيفاً من وطأة التسوية الجنوبية، خصوصاً أن هذه التسوية لا يمكن أن تشبه "تفاهم نيسان" 1996 كما يُشاع، بل ستكون أكثر تثبيتاً للاستقرار، فلا تترك مسبّباتٍ لحروب جديدة، أو مبرراتٍ لبقاء السلاح غير الشرعي. واللافت قول عبد اللهيان في بيروت "إن حزب الله أدّى دوره الرادع والمؤثّر"، وكأنّه يقوم بواجب رفع المعنويات وتحديد سقف الانخراط في "المشاغلة".
والواضح أن إيران تساوم على مستوى المنطقة، وتسعى كي تقبض هنا ما تدفعه هناك، في عملية بيع وشراء مكشوفة مع "عدوّتها الحميمة" الولايات المتحدة، على طريقة "البازار" الإيراني المعروف.
فهل ينجح الضغط الدبلوماسي الدولي في ليّ ذراع إيران عن الملفّ اللبناني، كي يتحرّر "يومه التالي" من عقدة أيام الشرق الأوسط، ويكون له سلامه الخاص قبل السلام العام، أم تذهب الرؤوس الحامية إلى الحرب الضريرة الرعناء، وتنسف الآمال المعقودة على الخلاص؟