يتقلّب المودعون على "جمر" الأخبار التي تتناقل إمكان تعديل التعميم 151 بين لحظة وأخرى، في حين أن القرار لا يزال يراوح مكانه. فالأجواء النقدية ملبّدة بكثير من الضباب. ولقاءات مصرف لبنان مع المصارف، ومع المسؤولين المعنيين بالملفّات المالية والاقتصادية، لم تصل بعد إلى النتيجة المرتجاة. وكلّما أقفل "المركزي" ثغرة في جدار الإصلاحات النقدية "المتصدّع"، فُتحت ثُغر تهدّد بسقوط الحائط برمّته.
مع انقضاء مهلة تمديد العمل بالتعميم 151 مطلع كانون الثاني 2024، فُتح باب الاجتهاد لتعديل الإجراءات الاستثنائية بشأن السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الأجنبية. فهذا التعميم، بنسخته الأخيرة (من 1 شباط إلى 31 كانون الثاني 2023)، سمح لكلّ من يملك حساباً بالدولار، ولا يستفيد من التعميم 158، أن يسحب 1600 دولار شهرياً على سعر صرف 15000 ليرة. أي ما مجموعه 24 مليون ليرة، يُدفع نصفها نقداً، والنّصف الآخر يُوضع في حساب البطاقة المصرفية. وعليه فإنّ البحث تركّز مع انتهاء مفعول التعميم على كيفية إنصاف المودعين، من دون التأثير سلباً في الوضع النقدي وسعر الصرف. خصوصاً أنّ نسبة الاقتطاع من الحسابات haircut وصلت، بحسب هذا التعميم، إلى 83 في المئة. ومن الأفكار التي طرحت، برز دفع حوالى 260 دولاراً نصفها بالدولار النقدي، والنصف الآخر بالليرة على أساس سعر صرف السوق يوضع في حساب البطاقة المصرفية ويُخصّص لعمليات الشراء حصراً. مجموع هذا المبلغ الذي يعادل 24 مليون ليرة، لا يؤثّر سلباً في زيادة الكتلة النقدية، ويزيل haircut عن السحوبات. وبعد الكثير من الأخذ والردّ استقرّ الرّأي على دفع 150 دولاراً نقداً من دون أيّ مبلغ آخر بالليرة.
كلّما أقفل "المركزي" ثغرة في جدار الإصلاحات النقدية "المتصدّع"، فُتحت ثُغر تهدّد بسقوط الحائط برمّته
كلفة تعديل التعميم 151
على الرّغم من هزال المبلغ المراد دفعه، والذي لا يتجاوز 1800 دولار سنوياً للمودع الواحد، فقد عارضته جمعية المصارف بشدة. وبحسب مصادر مصرفية مطّلعة فإنّ "كلفة تسديد 150 دولاراً شهرياً لكلّ مودع، لا تنطبق عليه شروط التعميم 158، ستبلغ 5 مليارات دولار في غضون 15 عاماً". أي أنّ الكلفة السنوية للقرار ستكون 333.3 مليون دولار. وسيضاف هذا المبلغ إلى ما تدفعه المصارف لتلبية السحوبات من التعميم 158، إذ وصلت قيمتها منذ حزيران 2021 إلى نيسان 2023، إلى حوالى 889.4 مليون دولار. أو 444 مليون دولار كمتوسط سنوي. هذا قبل تعديل مصرف لبنان التعميم، وإلغاء دفع 400 دولار بالليرة – من أصل 800 دولار- على سعر صرف 15000 ألف ليرة. واقتصار المبلغ المسموح به شهرياً على 300 أو 400 دولار نقداً. وتخشى المصارف من أن تفوق قيمة السحوبات المبالغ المتوقّعة نتيجة السرّية المصرفية، وإمكان سحب المودعين المبلغ من أكثر من حساب مصرفي.
"الكابيتال كونترول" أولاً
الاعتراض على تعديل قيمة السحوبات لا تنحصر بالمصارف عامّة، وتحجّج البعض منها بعدم القدرة على تلبية التعميم نتيجة نقص السيولة بالعملة الأجنبية، إنّما تمتد إلى مصرف لبنان أيضاً. فهناك الكثير من المتغيّرات التي يجب أخذها في الاعتبار للوصول إلى القرار النهائي. وتكاد بعض المصادر المصرفية تجزم أنّه "لم يتمّ اتخاذ قرار نهائي بتعديل التعميم 151، ولا حتّى قيمة المبلغ الذي سيدفع في حال التوافق. إذ إنّ المشكلة الأساسية نكمن في عدم إقرار قانون الكابيتال كونترول". وهو، للمناسبة، من المطالب التي وضعها نوّاب حاكم مصرف لبنان، بالإضافة إلى الحاكم الحالي بالإنابة وسيم منصوري، في خريطة الطريق شرطاً للاستمرار بالمهمات. وأعطوا الحكومة في نهاية تموز 2023، مهلة 6 أشهر لتحقيق المطالب الإصلاحية التي تمكّنهم من ضبط الوضع النقدي وتسريع الحلول في ما يتعلّق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي. إلّا أنّ النتيجة كانت عكس ذلك. فباستثناء إقرار موازنة 2024 بمواقيتها الدستورية، وبسعر صرف يثير المشكلات أكثر ممّا يحلّها، فإنّ أيّاً من المطالب الأخرى لم تُنفّذ. حتّى أنّ قانون "الكابيتال كونترول" أسقط في جلسة منتصف كانون الأول التشريعية بعدما شهد عشرات التعديلات عليه. وكان من شأن إمرار الكابيتال كونترول الاستغناء عن كلّ المبادرات التي يجرّب "المركزي" القيام بها حفاظاً على أموال المودعين من جهة، وتحسيناً في وضعهم المادي من جهة أخرى. في حين أنّ الحلّ الأمثل يبقى بإقرار ممثّلي الشعب، أي النواب، "الكابيتال كونترول"، وتحمّل المسؤولية في معالجة تداعيات الأزمة النقدية.
عرقلة الإصلاحات مستمرّة
إذاً، قبل ستة أشهر بالتمام والكمال وضع نواب الحاكم الأربعة خريطة طريق من ثلاث صفحات للاستمرار بالمهمات، مشترطين على المجلس النيابي تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية. وكانوا على يقين وقتذاك من أنّهم يستطيعون العمل حوالى نصف سنة إلى حين إنجاز المطلوب من الحكومة ومجلس النواب. مهلة الأشهر الستة انتهت يوم أمس مع إقرار يتيم لموازنة 2024. إلّا أنّ إقرار هذه الموازنة من دون "الكابيتال كونترول" عقّد الامور. فالموازنة رفعت سعر الصرف من 15 ألف ليرة في موازنة 2022، إلى 89500 ليرة، ووضعت مصرف لبنان أمام معضلة السير بهذا السّعر في احتساب موازنات المصارف وسعر السحوبات. مع العلم أنّ احتساب موازنة المصارف على السعر الجديد يفلسها حتماً. في حين أن اعتماد السعر للسحوبات النقدية من حسابات الدولار سيدهور سعر الصرف ويقضي على كلّ ما تحقق من استقرار في الفترة الماضية.
محاذير المركزي
التسليم جدلاً بإقرار 100 أو 150 دولار للمودعين يثير مجموعة من المحاذير في مصرف لبنان، وأهمّها:
يندرج القرار من جملة المبادرات التي كان مصرف لبنان يقوم بها ويُنتقد عليها.
المبلغ زهيد ولا يكفي لتمويل الفاتورة الاستهلاكية للمودعين وهو لا يتجاوز 13.5 مليون ليرة.
يستمرّ في التمييز بين المودعين، ولا يحقّق العدالة في ما بينهم.
القرار يُعتبر حلاًّ مجتزأ. في حين أنّ الحلّ الشامل في يد الدولة.
أكثر ما يثير الدهشة في كلّ ما يجري لا يتعلّق برفض المصارف التعديلات، ولا بحذر مصرف لبنان، ولا حتّى بإهمال المسؤولين المتعمّد للإصلاحات وجهلهم أهمّية الكثير منها، إنّما برضى المودعين، إذ باتت غالبيتهم ترضى بـ 100 دولار شهرياً، وكأنّ حقوقها في المصارف "صدقة" وليس حقّاً مقدّساً لها.