أصبح للبلد "المفلس" موازنة، و"بدأت مرحلة التعافي" بحسب الرئيس نجيب ميقاتي. وذلك بعدما استطاعت حكومته "المبتورة"، والمقتصرة صلاحياتها على تصريف الأعمال، "وقف الانهيار"، المفاخرة بالإنجازات التي أتت قبل أن "يُملأ فراغ" عبارة رئيس لجنة المال: "دولة بلا حسابات هي دولة بلا ذمّة وبلا شرف"، التي شُطبت من محضر جلسة مجلس النواب، لا تذكّر إلّا بالمثل الشعبي القائل "إن كنتوا نسيتوا اللي جرى، هاتوا الدفاتر تنقرا!".
تراجع حجم موازنة لبنان للعام 2024 بنسبة 80 في المئة عمّا كان عليه في سنوات ما قبل الانهيار. ففي العام 2018 بلغت قيمة النفقات في الموازنة العامة 16.4 مليار دولار، في حين لم يتجاوز حجم الانفاق المقدّر للعام الحالي 3.3 مليار دولار، 60 في المئة من هذا الانفاق خصّص لرواتب الموظّفين وأجورهم. والمفارقة أنّ القيمة الحقيقية للرواتب لم تعد تساوي في العام 2024 أكثر من 29 في المئة ممّا كانت عليه قبل الانهيار، مع العلم أنّها كانت تشكّل 36.5 من مجمل النفقات قبل اندلاع الأزمة.
التهرب من دفع المتوجّبات
النمو الاقتصادي المزعوم من قبل بعض أركان السلطة لا يدحضه التراجع الهائل في حجم الاقتصاد فحسب، إنّما هروب الدولة من سداد التزاماتها، والتوقّف عن الانفاق الاستثماري. فأقساط القروض مع فوائدها كانت تبلغ قبل الانهيار حوالى 5 مليارات دولار وتشكّل نحو 31 في المئة من مجمل الإنفاق. فيما الانفاق على الكهرباء وحدها في العام 2018 أضاف 1.4 مليار دولار على النفقات، على شكل سلفات. وتمّ إنفاق حوالى 250 مليون دولار على النّقل والطرق، وبلغ الإنفاق الاستثماري 1.4 مليار دولار. وكلّ هذه النفقات شُطبت من موازنة العام الحالي.
صحيح أنّ العديد من النفقات الآنفة الذكر ستشهد انخفاضاً لافتاً لو قرّرت الحكومة الالتزام بها، إلّا أنّها سترتّب المزيد من العجز وتقضي على المفاخرة بـ "صفر عجز". وعلى الرّغم من حتمية هيكلة الدين العام، وتقليص العجز في الكهرباء بعد رفع الفواتير و"دولرتها"، وتراجع قيمة الرواتب، فإن قيمة هذه النفقات مجتمعة ستفوق جميع الإيرادات المتوقعة لو قررت الحكومة احتسابها. وعليه، فإنّ لعب الدولة في الوقت الضائع قبل تحريك الدائنين الشكاوى ضدّها، وانفجار غضب المواطنين من تراجع الخدمات وتحميلهم كلفتها الباهظة على شكل ضرائب ورسوم، لا يمكن وصفه بالنموّ.
أكثر من ذلك، فإنّ "الادّعاء بتصفير العجز في الموازنة أخطر من العجز في ذاته"، بحسب رئيس "المعهد اللبناني لدراسات السوق"، الدكتور بتريك مارديني. "إذ لن يتمّ البحث عن مصادر تمويل وافية لسدّ العجز المترتّب عن ارتفاع النفقات". ويظهر بشكل فاضح في هذه الموازنة الفرق بين الإيرادات والنفقات المتوقّعة. ففي حين اعتمدت الإيرادات لهذا العام على ما تحقّق من جباية في العام 2023، مضافاً إليها 14 في المئة، يتوقّع أن لا يحقّق الاقتصاد نمواً أكثر من 1.7 في المئة. "فكيف إذاً للحكومة رفع الإيرادات أكثر من نسبة النمو من دون استدانة"، يسأل مارديني. وجوابه "كان من الأجدى لهذه الحكومة عدم رفع النفقات من 200 ألف مليار ليرة في العام 2023 إلى 300 ألف. الأمر الذي كان من شأنه تجنيب مراكمة عجز مخفي، ستبدأ نتائجه السلبية بالظهور بعد النصف الأول من العام الحالي".
هذه الموازنة لا تعدو كونها "طبخة بحص". ولن تطول الأيام لتثبت الأرقام المرصودة عجزها
التخبّط في تأمين الإيرادات
مقابل هذا التخبّط في تقدير النفقات، برز تهرّب واضح من احتساب بعض الإيرادات. فالتعديلات على مواد الموازنة استبدلت المادة 58 التي كانت تنصّ على تحصيل الضريبة من إيرادات الأموال المنقولة وغير المنقولة للبنانيين في الخارج والمقيمين في لبنان بالمادة 42، مزيلة المقطع الثاني الأساسي من هذه المادة"، بحسب المحامي الدكتور كريم ضاهر. فألغيت "العصا" من النصّ الأصلي، الذي كان يحيل المتخلّفين عن الدفع على النيابة العامة المالية باعتبارهم متهرّبين ضريبياً ويتم الحجز على أموالهم، وأبقت على "جزرة" الإعفاء من الغرامات".
المادّة الأصلية التي وردت في مشروع قانون الموازنة المرسل من الحكومة ذكّرت بموُجِب دفع الضريبة وفقاً للمواد 77 إلى 82 من قانون ضريبة الدخل. وتضمّنت تسوية على جهتين: فهي تعفي من غرامات التحصيل والتحقق إلى حين تسديد الضريبة عن جميع السنوات وصولاً إلى العام الحالي. في حين تقول للمكلّفين من الجهة الثانية إنّ الضريبة عن العام 2022 تُدفع وفقاً لعملة الإيراد، كما نصّت موازنة 2022. و"ممّا يفهم من القانوني الوارد في موازنة 2022 هو أنّ تسديد الضريبة عن كلّ السنوات السابقة للعام 2022 تدفع بالليرة على سعر الصرف القديم، أي على 1500 ليرة"، بحسب ضاهر. فلا تتحقّق أية منفعة للخزينة من تسديد المتأخّرات، نتيجة انهيار سعر الصرف وفقدان الليرة 98 في المئة من قيمتها.
وفي موازاة تفخيخ المادّة 42 من الموازنة، لم ترصد الحكومة الاعتمادات اللازمة لاستكمال وزارة المال شروط اتفاقية التبادل التلقائي للمعلومات CRS الضرورية لتطبيق هذه الضريبة. فهذه الاتفاقية تسمح للدول التي يعمل فيها لبنانيون بالتصريح تلقائياً، أو غب الطلب، عن نشاطهم الاقتصادي في الخارج للدولة اللبنانية. وهذا ما يسمح للأخيرة بملاحقتهم ضرائبياً. وعن المبلغ المتوقّع تحصيله من هذه الضريبة، يفترض ضاهر "أنّها بمئات الملايين من الدولارات". وبحسبة بسيطة يمكن القول إنّ اللبنانيين المقيمين في الداخل والذين يملكون أعمالاً في الخارج لديهم مليارات الدولارات على شكل أموال منقولة وغير منقولة، ولنأخذ مثالاً على ذلك السياسيين فحسب. فإذا افترضنا أنّ المقيمين أخرجوا في السنوات الأخيرة من المصارف مبالغ تراوح بين 50 و70 مليار دولار تنتج ربحاً في الخارج بمتوسّط 7 في المئة، فيكون المبلغ الذي يخضع لضريبة بنسبة 10 في المئة بحدود 5 مليارات دولار. وتالياً تحقّق هذه الضريبة عائداً مقداره 400 مليون دولار.
باختصار، فإنّ هذه الموازنة لا تعدو كونها "طبخة بحص". ولن تطول الأيام لتثبت الأرقام المرصودة عجزها عن الإيفاء بأبسط المتطلّبات رغم ثقلها الكبير على كاهل المكلفين.