باتت بصمات الأصابع جزءاً لا يتجزّأ من حياتنا اليومية. مِن فتْح الأجهزة الذكية إلى التقدُّم بطلبات الحصول على جوازات السفر ورفْع الأدلّة الجنائية، التطبيقات كثيرة. أما الأكثر إذهالاً، فهو اعتقادٌ لطالما تسلّح به العلماء بأن ليس ثمة تطابُق بين بصمات ما يفوق 100 مليار من البشر ممّن زاروا ويزورون الأرض. وللتدليل على فرادتها، قيل حتى إن التوائم المتطابقة التي تتشارك معظم العلامات الوراثية تتمايز في البصمات. لكن هناك المزيد ليُقال.
جذور استخدام بصمات الأصابع ضاربة في التاريخ، إذ هي تعود إلى الحضارتين البابلية والصينية القديمة. وقد لبّت أولى حالات الركون إليها أغراض الطبّ الشرعي في أواخر القرن التاسع عشر. وفي مثال صريح على أهميّتها، أوردت شبكة "بي بي سي" في 2020 تقريراً عن عائلة بنغلاديشية تعاني الأمرّين لتسيير أمورها الحياتية لعدم امتلاكها تلك البصمات.
الحالة النادرة التي تعاني منها العائلة تُعرَف طبيّاً بالأديرماتوغليفيا (Adermatoglyphia). وهي كناية عن طفرة نادرة في جين SMARCAD1 تصيب عدداً محدوداً من الناس. والحال أنها تجعل أصابع يدَي وقدمَي المصاب خالية من النتوءات الفريدة التي تتشكّل منها البصمات. ووفق المعاهد الوطنية للصحة الأميركية، قد تأتي الطفرة مصحوبة بانخفاض في عدد الغدد العرقية في اليدَين والقدمَين، وظهور تشوّهات وتقرّحات جلدية ونتوءات على الوجه.
معاناة العائلة البنغلاديشية دليل على أنّ من لا يمتلك بصمات واضحة المعالم محكومٌ بمواجهة شتّى أنواع العقبات والإحراجات. لكن عالَم البصمات، كما يتكشّف، مليء بالتعقيدات الأخرى. فقد فتحت دراسة رائدة، نُشرت قبل أيام في مجلة Science Advances، الباب أمام دحض الاعتقاد الشائع بأنّ بصمات أصابع كلّ منّا فريدة تماماً من نوعها.
مستخدِمةً الشبكة العصبية كأحد نماذج الذكاء الاصطناعي، جاءت الدراسة لتوضح أن النتوءات الموجودة على أطراف أصابعنا قد لا تكون مختلفة بالمطلق، كما كنّا نظنّ. يُسمّى النموذج ذاك "الشبكة التبايُنية العميقة" وهو شبيه بتكنولوجيا التعرّف على الوجوه. وقد خوّل فريقاً من الباحثين من جامعتَي كولومبيا وولاية نيويورك مطابَقة بصمات أصابع مختلفة تعود لنفس الشخص بمعدّل نجاح قارب الـ77 بالمئة من الحالات.
شملت التجرية قاعدة بيانات حكومية أميركية تتألّف من 60 ألف بصمة - بعض أزواج البصمات فيها يعود لإصبعَين مختلفين لنفس الشخص، وبعضها الآخر لإصبعَي شخصَين مختلفَين. وقد رمى الفريق إلى معرفة ما إذا كانت الشبكة العصبية قادرة على تحديد أوجه التشابه بين بصمات أصابع الشخص الواحد. وهذا ما حصل بالفعل؛ فمع الوقت، تحسّن أداء الشبكة لناحية التعرّف على بصمتين مختلفتين تعودان لنفس الشخص.
على الرغم من كون بصمات أصابع اليد الواحدة بقيت تتمتّع بالمبدأ بشيء من الفرادة، إلّا أنّ ما يكفي من أوجه التشابه بينها برز لتمكين البرنامج من إجراء المطابَقة. وعلى الأخصّ، تبيَّن أنّ اتّجاه النتوءات في وسط البصمة يكون مشابهاً بغضّ النظر عن الإصبع الذي اُخذت منه الأخيرة.
في الواقع، لم يركّز برنامج الذكاء الاصطناعي على الفروع ونقاط النهاية في أطراف بصمات الأصابع، تِبعاً للأنماط التقليدية المستخدَمة في مقارنة البصمات. إذ ركّز الباحثون على الزوايا وانحناءات الحلقات الموجودة في مركز بصمة الإصبع للعثور على أوجه التشابه تلك.
مجتمع الطبّ الشرعي تلقّى نتائج الدراسة بفتور. فبحسب كريستوف تشامبود، أستاذ علوم الطبّ الشرعي في كليّة العدالة الجنائية بجامعة لوزان في سويسرا، ليست الدراسة جذرية كفايةً ولم تشمل اختبارات مبنية على عيّنات مشوَّهة وأكثر تعقيداً . أما سارة فيلدهاوس، الأستاذة المشاركة في علوم الطبّ الشرعي بجامعة ستافوردشاير، فاستبعدت أن يكون للدراسة تأثير حاسم على القضايا الجنائية في مرحلتها الراهنة.
من ناحيته، لم ينفِ الفريق البحثي بروز عقبات بإزاء البيانات قليلة الجودة، حيث عادةً ما يتمّ تلطيخ بصمات الأصابع في مسرح الجريمة. لكنهم أكّدوا أن الدراسة ذهبت أبعد من أي بحثٍ سابقٍ في هذا المجال. لا بل قاموا بإتاحة "كود" الذكاء الاصطناعي الخاص بالبرنامج، والقابل للتطوير، للمهتمّين والخبراء. وشبّهوا الدراسة بحجر الدومينو الأوّل في سلسلة اكتشافات ضخمة لاحقة.
فوفقاً للفريق، قد ينتج عن الدراسة تأثيرات بعيدة المدى تتجاوز عالَم بصمات الأصابع. والأمر، من وجهة نظرهم، لا يرتبط بالطبّ الشرعي فقط، بل بقدرات الذكاء الاصطناعي على قلْب كثير من المفاهيم الرائجة. كما أن النتائج قد تساعد يوماً على بعْث قضايا باردة وأخرى سبق وأُغلقت لناحية تبرئة من أشتُبه بهم وإدانة من بقوا بعيدين عن الشُبهات.
قد يكون مُدمِنو التكنولوجيا أوّل المتحمّسين لأن تطال تطبيقات الدراسة، بعد إخضاعها لتجارب أوسع إطاراً، الهواتف النقّالة والأجهزة اللوحية وإتاحة الإمكانية أمامهم لاستخدام أي من أصابعهم لفتحها. لكن الجانب الأكثر ثورية في المسألة قد يطلّ علينا من خلال مزاوَجة ما توصّل إليه الفريق البحثي مع إشارات حول بدء مقارَبة البصمة كهولوغرام ثلاثي الأبعاد.
البنية ثلاثية الأبعاد للبصمات يُعرّفها الخبراء بعلامة الإصبع وقوامها نتوءات صغيرة من سلاسل دهنية فوق الجلد بطول بضعة ميكرونات لكلّ منها، أي ما يوازي بضعة أجزاء من المئات من سماكة شعر الإنسان. وحيث أن المُعرّفات البيومترية الحالية تُسجّل علامات الأصابع كصوَر ثنائية الأبعاد حصراً، فهي بذلك تهمل عمْق علامة الإصبع، بما في ذلك المسام والندوب الواقعة في أطرافه.
في جامعة دايتون الأميركية، ينكبّ فريق بحثي على تطوير تقنية لإظهار مختلف الخصائص الطوبولوجية ثلاثية الأبعاد لعلامة الإصبع، مستخدِمين تقنية الليزر وتراكُب الموجات. والبعد الثالث ذاك، حالما يتبلور تطبيقياً، من شأنه أن يفتح آفاقاً واسعة أمام ثورنة عالَم البصمات، عموماً، والشقّ المعنيّ منه بالأدلّة الجنائية، خصوصاً.