يسهل من خلال متابعة المشاهد الواردة من غزّة معاينة الجنون الحربي الإسرائيلي، وما تَحوّل إليه من معارك استنزاف واستهدافات واغتيالات. وهي صورة تبدو معاكسة للوضع عند الحدود اللبنانية الجنوبية، حيث يبدو أنّ الحرب المستمرّة بإيقاع تصاعدي منذ الثامن من تشرين الأول الماضي تجنح باتجاه تصعيد متفلّت من كلّ الضوابط.
وما بين الحربين في غزة وفي جنوب لبنان، يقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عصيّاً على المحاكمات وفوق المساءلة الدّولية. صحيح أنّ الجميع يراهنون على محاسبة داخلية وسقوط الرجل أمام منافسيه سياسياً، ولكن على صعيد مبدأ الجريمة والعقاب فهذا ما لن يكون متاحاً تحقيقه. لأنّ المسألة ليست في نتنياهو ولا في من سيعقبه أو في من سيحاسبه داخل الكيان، المسألة تكمن في كيان قام على الترهيب والمجازر والدمار. كيان قام على مبدأ توفير الأمن لمواطنيه على حساب أمن العالم أجمع، وتوفير المسكن لمن يستقدمهم من الخارج بإسكانهم في منازل صادرتها أجهزته الأمنية أخيراً، أو مجمّعات وأبنية شادها فوق أطلال مدن وقرى دمّرها وسوّاها بالأرض في مواجهات سابقة. هذا الأمن الذي تبخّر بصفعة طوفان ضرب غلاف غزة. هذا الغلاف الذي كانت الأمم المتحدة قد قالت إنّه يجب أن يكون ضمن الأراضي الفلسطينية، كما طالبت واشنطن تل أبيب مراراً بوقف عمليات الاستيطان فيها. ولكنّها مطالب ودعوات لم تَحُل دون تمدّد إسرائيل على حساب الأراضي الفلسطينية، ضاربة بكلّ ما يتصل بحلّ الدولتين عرض الحائط، وهو حلّ لم يحرّك أحد ساكناً من أجل تطبيقه رغم إجحافه بحقّ الفلسطينيين، علماً أنّ من عطّله هو الإسرائيلي نفسه الذي يسعى إلى نسفه.
لا معنى لأعداد الضحايا ولا لصورهم ولا لأسمائهم في سوق البورصات العالمية وسعر الأسهم والمضاربات.
حرب غزّة تتكلّم عن نفسها، رغم محاولات إشغال الرأي العام العالمي بفضيحة من هنا أو بموجة عنصرية من هناك، تبقى مشاهد الدماء والأشلاء والدمار أقوى من كل محاولات الحجب والإزالة والتبليغ عن حسابات ومنصات ومواقع تنقل الحقيقة ليس إلّا، ولكنّها حقيقة دموية. صور الأطفال الغارقين بدمائهم في المستشفيات، صوت بكائهم ألماً وخوفاً ويتماً، صور أطرافهم وأترابهم، صور الجثامين وقد وُضعت متجاورة في صفوف طويلة، مشاهد لا يجوز نشرها من الزاوية الأخلاقية واحترام الضحايا وأقاربهم الأحياء إن بقي منهم أحد. ولكن هل نتركها بلا نشر كي لا يعرف العالم ماذا ارتكبت إسرائيل من مجازر بحق شعب بأكمله منذ أن قامت ككيان حتّى اليوم، مسلسل من القتل والتهجير والتدمير والاحتلال. يرتفع صوت الضحايا ويصمت العالم. أمّا من هم في مواقع القيادة فيرفعون أصواتهم علّها تحجب صوت البكاء والألم القادم من بعيد. شلال الدم الهادر لم يخرج بعد من يوقفه بعصاه أو بقرار أممي أو دولي أو حتى بتحذير شديد اللهجة. نغمة الإعراب عن الخشية والخيبة والتمنّيات لا يمكن الرهان عليها في زمن الحرب المغطاة من دولة عظمى من هنا أو مشروع اقتصادي عالمي من هناك. لا معنى لأعداد الضحايا ولا لصورهم ولا لأسمائهم في سوق البورصات العالمية وسعر الأسهم والمضاربات.
وفي جنوب لبنان، "ميني" حرب، ضربات متبادلة، قصف وغارات، ضحايا ودمار ونزوح. جبهة مشتعلة بشكل أو بآخر. الطائرات المسيّرة لا تغادر سماء المنطقة، وأصوات الانفجارات والرشقات النارية المتقطعة تهدأ حيناً لتشتدّ حيناً آخر من دون أن ننسى صوت الغارات الجوية وخرق جدار الصوت. عمليّة كرّ وفرّ على جانبي الحدود يتّسع مداها ولا يضيق. وما الغارة التي استهدفت ضاحية بيروت الجنوبية أخيراً سوى مؤشّر على المدى الذي قد تبلغه من دون نسيان التهديدات الإسرائيلية المستمرة في تحويل لبنان إلى نسخة عن غزّة، وفي الأمر مفاخرة قبيحة تدلّ على عقلية إجرامية لا ترتدع ولا تخشى مجلس أمن أو أمماً متحدة أو محكمة عدل دولية طالما حظيت بحماية الدول العظمى ورعايتها.
حرب لبنان الجنوبية يخشى كثيرون أن تخرج من إطارها الجغرافي إلى مدى أكبر في لحظة انفعال إسرائيلية يبحث قادة الغرب مسبقاً عن أسباب تبريرية لها حتّى قبل أن تقع. هذا الغرب الذي بعث برسائله إلينا مهدداً متوعّدا من رفع مستوى المواجهة يقف متفرجاً على كل ما يحصل في غزة من دون أن يجرؤ على سؤال أو نقد، فكيف له أن يتخذ موقف الزاجر.
هي لحظة أو خطوة أو خطأ في التقدير وتتدحرج الأمور إلى مواجهة مفتوحة ومن دون سقف أو حدود. يحرص حزب الله عند الجانب اللبناني من الحدود على الإبقاء على المواجهات ضمن مناطق محدّدة، ولكنّه يفتّش عن الهدف الذي يعيد إرساء التوازن الردعي إذ مال الميزان إلى كفة العدو مع أكثر من خرق. هو هدف يريده الحزب أن يبقى ضمن إطار المواجهات المحسوبة. أما إسرائيل ونتنياهو تحديداً فيسعيان إلى توسعة المعركة، يهرب هو إلى الأمام والفرصة متاحة. الانشغال العالمي والأميركي خصوصاً بالسباق الانتخابي قد يوفر له فرصة لتوجيه ضربة إلى لبنان أو حتى إلى إيران وما بينهما من ساحات مفتوحة قد تكون تلك الضربة الشرارة لحرب مدمرة ستغيّر حتماً وجه المنطقة.
على موعد مع حرب مجنونة أو استنزاف طويل، يبدو لبنان الحلقة الأضعف في كل ما يجري وعلى جميع الصعد.