يُدرك اللبنانيون أكثر من غيرهم أهمّية الاستقرار الأمني والسياسي لضمان عملٍ سليمٍ للماكينة الاقتصادية (Necessary but not sufficient condition). فعلاقة الاقتصاد بالأمن والسياسة هي علاقة عضوية تنبع من مبدأ أنّه من دون أمن لا اقتصاد، ومن دون استقرار سياسي لا اقتصاد.
العولمة والاندماج الاقتصادي العالمي وتشابك الاقتصادات تجعل من الأحداث الأمنية أو السياسية في بلدٍ مُعيّن تؤثر على اقتصادات دولٍ أخرى حتّى ولو كانت بعيدة جغرافيًا. فعلى صعيد المثال لكل توتّر في منطقة الخليج العربي تداعيات فورية على الفاتورة الحرارية للدول المُستهلكة للنفط.
الصراع الدائر في غزّة وهمجية الماكينة العسكرية الإسرائيلية تجاه السكان العُزّل، أجّجا الصراع على مستوى المنطقة مع اشتعال جبهة الجنوب اللبناني، وردّة الفعل الحوثية في البحر الأحمر وردّة فعل الفصائل العراقية ضدّ الوجود الأميركي في العراق. وهو ما رفع مستوى المخاطر في المنطقة إلى مستويات عالية فرضت حضور غواصة نووية وحاملات طائرات وبوارج إلى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر.
هذا المشهد يطرح علامة استفهام كبيرة حول مصير الاقتصاد العالمي، في ظلّ صراع ناشئ جديد يُضاف إلى الصراعات الأخرى، وعلى رأسها الصراع الروسي – الأوكراني والصراع الصيني – التايواني، بالإضافة إلى الصراع الاقتصادي المُحتدم بين الولايات المُتحدة الأميركية والصين والعقوبات الغربية على روسيا، مما يجعل آفاق الاقتصاد العالمي محفوفة بالمخاطر.
بحسب البنك الدولي، من المتوقّع أن يسجّل الاقتصاد العالمي رقمًا قياسيًا مؤسفًا بحلول نهاية عام 2024، ألا وهو أبطأ نصف عقد من نموّ الناتج المحلي الإجمالي منذ 30 عامًا. وبحسب تقرير للبنك الدولي عن الآفاق الاقتصادية العالمية، من المتوقّع أن يتباطأ النموّ العالمي للعام الثالث على التوالي من 2.6% في العام 2023 إلى 2.4% في العام 2024، أي بأقلّ من ثلاثة أرباع نقطة مئوية عن متوسّط العقد الأول من هذا القرن. أمّا في ما يخصّ الاقتصادات النامية، فمن المتوقّع أن تنمو بنسبة 3.9% أي أقلّ بأكثر من نقطة مئوية واحدة من متوسّط العقد السابق. ويُضيف التقرير أنّه بحلول نهاية عام 2024، سيظلّ الناس في حوالي واحد من كل أربعة بلدان نامية ونحو 40% من البلدان المنخفضة الدخل، أكثر فقراً ممّا كانوا عليه عشية جائحة كورونا في العام 2019. ونقلًا عن النائب الأول للبنك الدولي إنديرميت غيل "بدون تصحيح كبير للمسار، فإنّ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين سيُعتبر عقدًا من الفرص الضائعة".
بدون وقف العمليات في غزّة ووقف التصعيد في البحر الأحمر، هناك شبه تأكيد أنّنا مُتوجّهون إلى فترة اقتصادية صعبة على الصعيد العالمي.
على صعيد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تباطأ معدّل النموّ في العام 2023 بشدّة ليصل إلى 1.9% إذ لم يقتصر هذا التراجع على البلدان المُستهلكة للنفط بسبب ضعف نشاط القطاع الخاص، بل شمل أيضًا البلدان المصدّرة للنفط من باب القطاع النفطي الذي شهد ضعفًا ملحوظًا بسبب خفض الإنتاج.
إذًا، مما تقدّم يتبيّن أن التداعيات الاقتصادية السلبية للصراعات في العالم تُرجمت في الأعوام السابقة تراجعاً في الاقتصاد. لكن ما الذي يجعل من الصراع في غزّة فريدًا في تداعياته؟
تُعتبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عنصرًا مُهمًّا في الاقتصاد العالمي من باب أنّ الدول الخليجية هي مصدر أساسي ومُهمّ للطاقة، كما أنّ قناة السويس هي عنصر مُهمّ في مجال التجارة العالمية من ناحية وزنها في النقل البحري العالمي. وعليه، فإنّ الصراع في المنطقة يرفع تلقائيًا من أسعار التأمين على البواخر ومن كلفة النقل بسبب ارتفاع أسعار النفط و/أو تعديل الطريق من قناة السويس إلى رأس الرجاء الصالح. هذا الارتفاع في الأسعار سينسحب على أسعار السلع والمواد الغذائية والأولية، وسيؤدّي إلى رفع التضخّم في العالم أجمع بدون استثناء. فتشابك الاقتصادات وتعلّقها بعضها ببعض يجعل من تغلل التضخّم في الاقتصادات العالمية أمرًا يستحيل السيطرة عليه. أكثر من ذلك، ارتفاع التضخّم سيُقوّض الإجراءات التي تقوم بها المصارف المركزية في الدول الغربية وعلى رأسها الاحتياطي الفيديرالي الأميركي، الذي بدل أن يُخفّض أسعار الفائدة لتحفيز النشاط الاقتصادي، سيكون مُرغمًا (أقلّه) على الحفاظ على أسعار الفائدة الحالية ورفعها في حال كان التضخّم كبيرًا، ممّا يعني المزيد من إفلاس الشركات وتراجع النموّ الاقتصادي. هذا الأمر سينسحب أيضًا على الدول الأوروبية وعلى اليابان من باب نفس الآلية. أما في الصين، فإنّ تراجع الصادرات الصينية سيكون على الموعد مع تراجع قدرة الاقتصادات الغربية، وارتفاع كلفة الشحن التي تسبّب بها الهجوم الحوثي على الحاويات والبواخر في البحر الأحمر.
وبتحليل بسيط، إذا ما استمرّ الصراع في غزّة وتأجّج الصراع في البحر الأحمر، بالإضافة إلى الصراع القائم في أوكرانيا والمواجهة الصينية – الأميركية على تايوان وما يتبعها من إجراءات اقتصادية عقابية، فسيكون هناك ارتفاع للتضخّم في العالم، ولن تستطيع أيّ دولة الهروب منه بحكم أنّ هذا التضخّم هو تضخّم مُتغلّغل (Implicit).
فهل يكون هذا الأمر رادعاً أمام تأجّج الصراعات العالمية، وبالتحديد الصراع في غزّة؟ الجواب ليس بالسهل نظرًا إلى الحسابات الجيوسياسية والجيو – اقتصادية القائمة، والتي تُعقّد المشهد إلى حدٍّ كبير. إلّا أنّ هناك بعض المؤشّرات التي يُمكن استخراجها من تصريحات بعض السياسيين، على مثال تصريح الرئيس الأميركي جو بايدن الذي أعلن أنّ الولايات المتحدة لا تدعم إستقلال تايوان على خلفية الانتخابات الرئاسية التي ربح فيها الاستقلاليون. وهو ما يُعتبر تراجعًا في الموقف الأميركي الذي كان داعمًا تاريخيًا لاستقلال الجزيرة، بحكم أنّ إخضاعها لبكين سيؤدّي إلى إضعاف اليابان، الحليف الأساسي في المنطقة.
لذا فإنّ التصحيح الكبير للمسار الذي تحدّثت عنه إنديرميت غيل النّائب الأول لرئيس البنك الدولي، هو قبل كلّ شيء تصحيح للمساريْن السياسي والأمني، لأنّه بدون وقف العمليات في غزّة ووقف التصعيد في البحر الأحمر، هناك شبه تأكيد أنّنا مُتوجّهون إلى فترة اقتصادية صعبة على الصعيد العالمي.