في غزة حرب.
وفي جنوب لبنان سباق بين الحلّ والحرب.
وإذا كانت المواجهة هناك بين إسرائيل و"حركة حماس" بدأت تدور على نفسها، وبات أفقها مديداً أو مسدوداً، فإنّ المواجهة هنا بين إسرائيل و"حزب اللّه" بعمقه الإيراني لم تعُد تحتمل كثيراً الدوران في الحالة نفسها أكثر ممّا دارت لثلاثة أشهر ونيّف، حول ما سُمّي بـ"المشاغلة" و"قواعد الاشتباك".
فلا "المشاغلة" أحدثت فرقاً محسوساً في حرب غزّة، ولا "قواعد الاشتباك" مضبوطة ومحترمة، خصوصاً من الجانب الإسرائيلي، بعد عملية اغتيال صالح العاروري ورفاقه في المربّع القيادي لـ"الحزب".
وبات جليّاً أنّ طهران طلبت بشكل حاسم من ذراعها الأولى في لبنان والمنطقة عدم التورّط في حرب واسعة، نتيجةً لحساباتها البراغماتية السجّادية والمفاوضات الحثيثة التي تخوضها مع واشنطن في أكثر من موقع وعلى أكثر من ملف ومكسب.
كان موقف السيد حسن نصراللّه في خطابَيه الأخيرين بليغاً في إحجامه عن الحرب
أمّا القيادة الإسرائيلية المحرورة والمحشورة في ما بينها، ومع التحوّل الملموس في الرأي العام المحلي والدولي ضدّها، فإنّها تلهث وراء نجاح ما على جبهة لبنان بعد تعثّرها في غزة، وتضع هذه الجبهة بين حدَّين:
إبعاد سلاح "حزب اللّه" إلى ما وراء الليطاني تحت الضغط الدبلوماسي الأميركي والفرنسي، أو إبعاده بالقوة العسكرية أي بالحرب الواسعة، وحجّتها المعلنة إعادة المستوطنين إلى الشمال.
وكان موقف السيد حسن نصراللّه في خطابَيه الأخيرين بليغاً في إحجامه عن الحرب، حين ربط خوضها "بدون سقوف وضوابط" بـ"إذا" بادرت إسرائيل إلى شنّها.
إنّه الموقف الفعلي لإيران في انكفائها عن المواجهة الكبرى مع الولايات المتحدة، وتالياً إسرائيل، واكتفائها بـ"المشاغلات" المدروسة من اليمن والعراق ولبنان، وقد ترجمه نصراللّه بأمانة تامّة في إطلالاته الخطابية الأربع.
ورأى المراقبون أنّ ما رافق خطابَيه الأخيرين من تحليل سياسي عبر تعداد نقاط ضعف إسرائيل ونقاط قوة "محور المقاومة" وعمليات الإحصاء كان من الضرورات المعنوية التي يستوجبها استنهاض الهمم، وتمويه الدوافع الخلفية.
وتوقفوا عند قوله إنّ فتح جبهة الجنوب غداة عملية "طوفان الأقصى" في 8 تشرين الأول أفقد إسرائيل عنصر المباغتة، واعتبروا أنه هو الذي فقد فرصة المفاجأة ولم يُقدِم على اجتياح مستوطنات الجليل كما وعد، ولم يستغلّ ارتباك الجيش الإسرائيلي وتضعضع قراره بفعل الصدمة العنيفة التي تلقّاها في مستوطنات غلاف غزة.
لا شكّ في أنّ نصراللّه يُتقن لغة التحشيد والحثّ والحكّ على العواطف واستثارة تأييد بيئته، لكنّ الحرب شيء آخر، وقد ظهر تهيّبه منها في طوايا خطاباته وفي شرحه لـ"بركات غزة" على لبنان والعراق واليمن. لاسيما أنّ الإصرار على ربط لبنان بغزّة له عواقب خطيرة، وهناك بوادر اقتناع بفك هذا الرابط، كان أشدّها وضوحاً الإقرار باستقلالية "حماس" في تدبيرها السياسي، تحت شعار حرية قرار الساحات تحت الاستراتيجية المركزية.
وهذه البراغماتية العاقلة الممتدة من طهران إلى الضاحية تُفسح في المجال أمام المساعي الدبلوماسية الحارة لتفادي ويلات الدمار والمذابح، والتي يتولّاها موفدون رفيعو المستوى من باريس والاتحاد الأوروبي وواشنطن، أبرزهم الأقرب والأحبّ إلى قيادة "الحزب"، عاموس هوكشتاين.
ولا بدّ من أن يكون الدمار الذي حلّ بالناقورة قبل 3 أيام، كعيّنة أو نموذج ممّا سيحصل، حافزاً لفتح الأبواب أمام هذه المساعي الحميدة.
ولا يغيّر في الواقع شيئاً أن يبرّر نصراللّه عدم إقدامه على الحرب بحرصه على المصلحة الوطنية اللبنانية، لأن السوابق، خصوصاً في حرب تمّوز 2006، لم تكن كذلك.
فما يهم لبنان واللبنانيين اليوم أن ينضم "حزب اللّه" بأريحيّة إلى نداء "لا للحرب" وعدم استعدائه مطلقيه، سواءٌ رفَض فكرة تحييد لبنان عن الصراعات وخوّن دعاتها، أو تقبّل، ولو على مضض، إعادة ما للدولة والشرعية، خصوصاً قرار الحرب والسلم، أو اقتنع بعبثية استمرار النزف، لئلّا يبقى لبنان محكوماً بتراجيديا أغريقية دموية لا نهاية لها.
إنه مفترق القرارات المصيرية الشجاعة والالتزام الفعلي بمقتضيات الوحدة والمصلحة الوطنيّتَين، في التحرر من ذهنية الحرب وحتميتها ومجّانيتها و"بركاتها"، والبدء بسلوك طريق السلام.