لم تدم حالة الانتشاء بتقديم موازنة 2024 ضمن المهل الدستورية إلّا لبضعة أيّام، هذا إن لم يكن ساعات، قبل أن تبدأ تتكشّف عن الويلات. كلّما تعمّقت لجنة المال والموازنة بدراستها، كلّما انفتحت أمامها المزيد من الثغرات. وبحسب ما يمكن فهمه من التصريحات والمداولات، فإنّ السقوط في "حفر" الضرائب والرسوم والاعتمادات المرصودة للوزارات ستودي بالاقتصاد إلى الهلاك. فيما "ردم" هذه الحفر سيرفع العجز، ويقوّض الالتزام بالشروط الدولية ويؤخّر إمكانية الحصول على مساعدات خارجية.
"بين المرّ والأمرّ منه وضعت موازنة 2024 النواب عموماً ولجنة المال والموازنة خصوصاً"، برأي أركانها. فهذه الأخيرة التي شارفت الانتهاء من دراسة الموازنة، أدخلت عليها تعديلات جوهرية وأساسية لا يفترض أن تتضمّنها أيّ موازنة في الحالات الطبيعية، فكيف إذا كانت موازنة العام الرابع على الانهيار المتفلّت من أيّ إصلاح. وإذا وضعنا الزيادة الهائلة في الضرائب والرسوم وتناقضات سعر الصرف وتدنّي النّفقات الاستثمارية في الموازنة، جانباً، فإنّ أكثر ما توقّفت عنده "اللجنة" في جلستها الأخيرة، كان تضمين الموازنة سلفات خزينة لتمويل الوزارات وفتح اعتمادات غير واقعية. والأغرب إنّ "الحكومة بجلساتها الرّاهنة توافق على سلفات إضافية"، بحسب تصريح رئيس اللجنة النائب إبراهيم كنعان، "وقد أحالت إلى مجلس النواب مشروع موازنة بعجز 17 ألف مليار، بينما العجز الفعلي يصل الى أكثر من 50 مليار ليرة".
الحكومات والسّلفات
إذا كان قانون المحاسبة العمومية قد سمح بإعطاء المؤسّسات العامّة والصناديق والبلديات سلفات خزينة، فإنّه اشترط في المادّة 204 منه تثبّت وزير المال من إمكانية الجهة المستلفة إعادة السلفة نقداً في المهلة المحدّدة لتسديدها. وأوجبت المادّة 205 على الحكومة أن تُطلع المجلس النيابي على السلفات المقرّرة في غضون شهر. "وكلّ هذا يتمّ تجاوزه منذ العام 2003، تاريخ إنجاز آخر قطع حساب جرى تضمينه بند السلفات، وصدر بقانون خاص حمل الرقم 716 في شباط 2006 بالتوازي مع إقرار موازنة العام 2005"، يقول مدير الخزينة السابق في وزارة المال أمين صالح. "وحبّذا لو أنّ النائب كنعان، والمسؤولين الذين يناقشون الموازنة اليوم، والذين ما زالوا هم أنفسهم، يقرأون ما اوصينا به وحذّرنا منه منذ أكثر من 20 سنة. حين أنجزنا في مديرية الخزانة في وزارة المالية قطوعات الحسابات، وأرسلنا بياناً بسلفات الخزينة لأوّل مرة في تاريخ الجمهورية اللبنانية مرفقاً بقطع الحساب. وكانت أرصدة السلفات المتراكمة، منذ العام 1991 إلى نهاية العام 2004 قد بلغت حوالى 5848 مليار ليرة، أو ما يقارب 4 مليارات دولار على سعر الصرف الثابت القديم البالغ 1500 ليرة". وقد "وصلت قيمة هذه السلفات في العام 2018 إلى حوالى 7500 مليار ليرة"، بحسب تقرير صادر عن ديوان المحاسبة. "معتبراً إيّاها إنفاقاً من خارج الموازنة".
لا تُردّ
تعتبر سلفات الخزينة القديمة والجديدة بمعظمها مخالفة للقانون، إذ لا يجوز أن تعطى الإدارات العامة سلفاً كما حصل ويحصل راهناً لتمويل بدلات الإنتاج او الرواتب أو المساعدات. فالسلف تُعطى بحسب المادّة 203 من قانون المحاسبة العمومية لتمويل مستودعات الإدارات العامّة بلوازم مشتركة، وتعطى لشراء مواد استراتيجية قابلة للتخزين ولتغذية صناديق المؤسّسات العامّة والبلديات، وكذلك الصناديق المستقلّة المنشأة بقانون. وتتصدّر السلفة العامّة التي أعطيت في العام 2012 بقيمة 9800 مليار ليرة، وسلف الكهرباء على مدار السنوات أكبر السلف من حيث القيمة. ولكي تتهرّب الحكومات من رقابة المجلس النيابي، تضع هذه السلف لمدّة عام واحد، مع علمها المسبق باستحالة إرجاع الإدارات للأموال"، بحسب صالح. "أو تسحب المالية بند السلف من قطوعات الحساب كما حصل أيام حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى في العام 2011".
المشكلة الأكبر هي في تقديم سلف لإدارات لا تملك موارد مالية بدلاً من تخصيصها باعتمادات في موازنة رئاسة مجلس الوزراء. وذلك على غرار الهيئة العليا للإغاثة. ومن ثمّ تعمد الإدارة المالية إلى لحظ اعتماد لتسديد هذه السلف. "وهذه معالجة خاطئة ومخالفة للقانون، لأنّها تمثّل إنفاقاً من خارج الموازنة"، بحسب صالح. "وهي تتكرّر أيضاً في مجلس الإنماء والإعمار ومجلس الجنوب والوزارات الخدماتية وغيرها الكثير. ولم يتمّ إعارتها أيّ انتباه في الموازنات المقرّة وغير المقرّة أقلّه منذ العام 2017 إلى العام 2022".
سلف الخزينة دُفعت، والإدارات لا تملك القدرة على تمويلها، فما الحلّ؟
البداية يجب اعتبار السّلف الحالية كنفقات، وإدخالها ضمن عجز الموازنة الحقيقي، وليس تهريبها من خارجها لتخفيض العجز. وذلك من بعد تدقيقها من قبل ديوان المحاسبة وإقرارها بقيمتها الحقيقية المعطاة لكلّ المؤسسات والإدارات والصناديق العامّة، وليس بالاستناد إلى بيانات وزارة المال التي لا تظهر الرقم الحقيقي والدقيق. أمّا في ما خصّ السلفات السابقة فيجب إصدارها بقانون في مجلس النواب من خارج موازنة 2024، وإدخالها ضمن النّفقات المتراكمة منذ العام 1991 إلى تاريخه"، من وجهة نظر صالح. "فما حصل قد حصل، وما دفع قد دفع. وما سدّد بطريقة عشوائية قد سدّد. وتالياً لا تأثير من الناحية الاقتصادية على السلفات التي جرى تمويلها بالعجز أو الدّين او التضخّم، ودخلت بالدورة الاقتصادية وزادت من الدّين العام ومن فوائد الدّين العام". وبرأيه يفترض تسديد هذه السلف من خارج موازنة 2024 ليظهر الحجم الحقيقي للنفاقات والإيرادات والعجز الحقيقي في السنة المالية المختصّة. وبعلم المحاسبة والقانون يقتضي أن تكون النفقات والواردات كلّ سنة على حدة. لأنّ تسديد سلفات عن سنوات سابقة يؤدي إلى إظهار الموازنة على غير حقيقتها.
المشكلة تبقى في أنّ احتساب السلف الحديثة من ضمن الموازنة سيؤدّي إلى زيادة عجزها من النّاتج، بما يخالف شروط وتوصيات الجهات الدولية التي تقضي بأن يخفّض هذا العجز إلى مئة في المئة من النّاتج المحلّي الإجمالي. في حين أنّ عجز بقيمة 50 ألف مليار ليرة أو ما يقرب من 3.3 مليار دولار على سعر الصّرف الرسمي 15000 ليرة سيرفع العجز أكثر بكثير ويقضي على أيّ أمل بإصلاح قريب.
في المقابل، يقول رئيس لجنة المال والموازنة النيابية إبراهيم كنعان: "لا يخيفنا أحد بالعجز. فالحكومة قدّمت عجزاً وهمياً من خلال ثلث موازنة، لا موازنة متكاملة، ومن دون رؤية اقتصادية، واعتماداتها غير واقعية. فهل يجوز أن تكون لدينا موازنة ويتمّ الصرف بسلفات خارج الموازنة فنصبح مع سلفات الخزينة أمام موازنة مقنّعة؟".
لطالما راق الحكومات دسُّ "سمّ" السّلفات خارج "دسم" الموازنات لتخفيف العجز ظاهرياً، ولطالما مرّت هذه الإستراتيجية منذ التسعينيات إلى اليوم تحت العديد من الذرائع. فهل يوقف النوّاب الحكومة عند حدّها هذه المرّة، أم تستمرّ المخالفات ببدع محاسبية وقانونية، يدفع في النهاية المواطن ثمنها من قدرته المعيشية. سؤال ستتكفّل الأيام المقبلة الإجابة عنه في حال دعوة مجلس النواب إلى جلسة تشريعية لإقرار الموازنة. أمّا في حال العكس فإنّ نيّة الحكومة إقرار الموازنة بمرسوم سيقوّض أيّ أمل بالإصلاح المحاسبي والاقتصادي.