على قاعدة المثل المعروف "ما زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه"، بلغت حرب غزة، مع "مشاغلاتها" من لبنان واليمن والعراق، مستوى الإشباع، وحققت ما أُتيح لها أن تحققه في الميدان العسكري، ولاحقاً السياسي، وبات أي مزيد منها غير قادر على إضافة معطيات جديدة، أو إنتاج معادلات وموازين قوى مختلفة، بل التسبّب بدماء ومجازر ومآسٍ إضافية لا أكثر.
حتى لو استُخدمت فيها أسلحة أشد فتكاً وصواريخ عابرة ووحدات قتالية من النخب، وتم توسيع ميادينها، فلن تبدّل كثيراً في ما نتج وتحقق بعد شهرين و٢٥ يوماً من المواجهات.
في الواقع، بدأت هذه الحرب تدور على نفسها، حتى ولو حقق أي طرف فيها نجاحاً محدوداً في هذا المحور أو ذاك خلال الأيام والأسابيع المقبلة، فلا حسم فيها ولا انتصار، لا بـ"الضربة القاضية" ولا بـ"النقاط".
فكل طرف يستطيع أن يحسب نقاطه السابقة أو اللاحقة انتصارات، بينما هي أرقام أو طلقات خلّبية ذات طبيعة دعائية لا ترجمة لها في الحساب العسكري والسياسي.
لا مناص أمام غزة والضفة الغربية من ترتيب سلطة فلسطينية جديدة قد تغيب "حماس" عنها كلّياً خصوصاً بسلاحها، أو تتمثل فيها سياسياً بشكل جزئي ومحدود القرار
ما حققته إسرائيل، وقبلها "حركة حماس" وبعدهما "محور المقاومة والممانعة" من نقاط نظرية أو عملية، تم احتسابه لدى القوى والمرجعيات الدولية، وسيتم على أساسه طرح التسويات ورسم الخرائط السياسية والجغرافية، بعيداً من الأحلام والأوهام.
فإسرائيل بدأت تدرك صعوبة تحقيق سلّة أهدافها العليا، وأن حربها طويلة الأمد باهظة الثمن غير مضمونة الانتصار، ولا بدّ من يد أميركية - دولية تمدّ لها سلّم النزول عن أعلى شجرة الطموحات الخيالية والمشاريع التاريخية التوسّعية. كما بدأ هوس جنرالاتها، من على يمين بنيامين نتنياهو ويساره، يخف ويخمد.
و"حركة حماس"، ومعها سائر منظمات غزة، اقتنعت بأن سيطرتها العسكرية والسياسية على القطاع لا تتمتع بفرصة واقعية للاستمرار، بل إنها مطروحة للتصفية في مشاريع التسويات والمبادرات الدولية، بل العربية أيضاً، وتحديداً في المبادرة المصرية المتداولة والخاضعة الآن للمناقشة والتعديل.
ولا مناص أمام غزة والضفة الغربية من ترتيب سلطة فلسطينية جديدة قد تغيب "حماس" عنها كلّياً خصوصاً بسلاحها، أو تتمثل فيها سياسياً بشكل جزئي ومحدود القرار.
ولعلّ القوى الدولية الفاعلة كانت تترقب نتيجة الانهاك المزدوج على جبهتَي الحرب كي تستطيع فرض الحلول، وأبرزها حل الدولتين مع تعديلاته الجغرا - ديمغرافية، خلافاً لمشيئة المتطرفين لدى الطرفَين الإسرائيلي والفلسطيني، وخلافاً للموقف الرافض من "ميتروبول المحور" ومرجعيته، طهران.
إن هذه الأطراف الثلاثة، إسرائيل وغزة وطهران، أصبحت بنتيجة المراوحة في الحرب وانسداد أفق الحسم أكثر استعداداً لقبول المخارج التي تُرسم الآن في المطابخ الإقليمية والدولية.
ولم يكن التصادم الكلامي الأخير بين "الحرس الثوري الإيراني" و"حركة حماس"، ومسارعة إيران إلى محاولة احتوائه، سوى رأس جبل الجليد من تناقضات حلف "وحدة الساحات"، تماماً مثل تناقضات الإدارة السياسية الإسرائيلية للحرب داخل حكومة نتنياهو وخارجها.
وبات من الممكن التحدث عن طرفين في صفوف "الممانعة"، بعدما باعدت عملية "طوفان الأقصى" غزة عن طهران، واستطراداً "حماس" عن "حزب اللّه". وجاء الكلام الأخير من وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان عن قدرة "حماس" على المواجهة لأشهر إضافية بمثابة تبرير إعلامي لانكفاء طهران عن المساندة الفعّالة، واكتفائها بمقولة "المشاغلات".
ولا يخفى أن أجهزة المخابرات الدولية تستثمر في الخلافات داخل طرفَي الصراع كي تنجح في تمرير الأفكار والتسويات، من منطلق المسعى كي تكون الحرب الراهنة آخر الحروب باسم القضية الفلسطينية، على طريق السلام المستدام.
كما لا يخفى أن إيران تستثمر في حرب غزة وقضية القدس لحماية مكتسباتها الاستراتيجية بين ملفها النووي ونفوذها في بحار الخليج والممرات المائية المحورية والعواصم العربية الأربع. فصواريخ ومسيّرات اليمن ومنظمات "الحشد" العراقي وترسانة "الحزب" موظّفة كلّها في خدمة هذه المكتسبات، أكثر ممّا هي في خدمة غزة وفلسطين، بعدما انكشف ضعف التأثير الإيراني الميداني على وقائع غزة وتوقّعاتها.
طبعاً، لا تكون الحلول وليدة ليلة وضحاها، فدونها صعوبات وتجاذبات وشروط ومراحل آلام، غير أن هبّات باردة بدأت تبرّد الرؤوس الحامية التي ركبها أصحابها شهوراً وسنوات، ثم اعترفوا بعبثية ما يرتكبون.
والصحيح أن مسار السلام يبدأ فعلاً بإنقاذ المندفعين إلى الانتحار، من أنفسهم.