أصاب اللبنانيون مع الفصل الثالث من العام الحالي، ما أصاب الجماعة التي "افتكرت الباشا باشا، فطلع الباشا زلمي"، على حدّ قول المثل الشعبي الذي يصف خيبة الأمل. الغالبية انتظرت أن تحمل أشهر تموز، آب، وأيلول فرجاً اقتصادياً، نظراً لضخامة الاستحقاقات التي تتضمّنها، فإذا بها الأكثر إحباطاً. إذ لم يمثّل هذا الفصل استمراراً لما سبقه من التّعطيل فحسب، إنّما شكّل انكساراً لرجاء اللبنانيين بمدِّ حبل خلاص من الأزمات المتناسلة.
كان يُنتظر من أشهر الصيف الثلاثة، تحقيق الاقتصاد اللبناني نقلة نوعية على 5 أصعدة أساسية، هي: السياحة، الإصلاح المصرفي، الاستخراج النفطي، المحاسبة، وإنجاز موازنة إصلاحية للعام القادم. فما الذي حصل؟
تمّوز: دولارات السياحة "تبخّرها" حماوة الانهيار
عاد الزخم إلى حركة الوافدين إلى لبنان مع بداية صيف 2023. حيث شهد مطار رفيق الحريري الدولي استقبال أكثر من 100 طائرة يومياً خلال هذه الفترة، تقلّ ما بين 12 إلى 15 ألف وافد. بيد أنّ هذا النشاط الذي وصف بالإيجابي، لم يؤدِّ إلى ازدهار سياحي واقتصادي بالمعنى الحقيقي للكلمة. الوافدون بغالبيتهم كانوا من المغتربين اللبنانيين، وقلّة من السيّاح العراقيين والأردنيين والمصريين. الأمر الذي انعكس بشكل مباشر تراجعاً بالإنفاق السياحي والإشغال الفندقي والطّلب على الخدمات المميّزة والفخمة في قطاعات تأجير السيارات والمطاعم والملاهي. أمّا اقتصادياً، فلم تشهد هذه الفترة تراجعاً لسعر الصرف كما كان يعتقد، نتيجة لضخّ مليارات الدولارات في السوق. وبقي سعر الصّرف مرتفعاً بمقدار الضّعف مقارنة ببداية العام وبمتوسط 90 ألف ليرة للدولار الواحد.
شهد منتصف تموز، ولمدّة ساعات قليلة، خضّة نقدية "غريبة". فبعد نحو 4 أشهر على استقرار الليرة، هبط سعر الصّرف قبل ظهر 15 تموز بنسبة 10 في المئة، متخطّياً عتبة 100 ألف ليرة. وبغضّ النّظر عمّا أشيع من أنّ السّبب كان تحويل شركة مقاولات ما تقاضته من ليرات إلى دولارات، فقد ظهرت هذه الحادثة هشاشة الوضع النّقدي وضعفه أمام المضاربة.
أحيلت خلال هذا الشهر موازنة 2023 إلى مجلس الوزراء متأخّرة نحو 10 أشهر عن موعدها الدستوري. وهذه الموازنة التي لم تناقش كما سيتبين لاحقاً، أتت تضخّمية، متضمّنة 65 صفحة ضرائب، هدفها البحث عن كيفيّة إدخال الأموال للخزينة ولو على حساب تعميق الانكماش الاقتصادي.
كان يُنتظر من أشهر الصيف الثلاثة، تحقيق الاقتصاد اللبناني نقلة نوعية
آب: سلامة يودّع المركزي قبل صدور تقرير التدقيق الجنائي... ويختفي
استُهلّ آب بانتهاء ولاية رياض سلامة بعد نحو 30 عاماً في سدّة حاكمية مصرف لبنان، واستلام نائبه الأول وسيم منصوري مهام الحاكم بالإنابة. الأخير الذي أتى على ظهر شروط مسبقة، التزم كلمته بوقف إقراض الدولة بالدولار مما تبقى من توظيفات إلزامية، وبالليرة من خلال طباعة النقود. وتعهّد بالمزيد من الشفافية في ما يتعلّق بنشر أرقام ميزانية مصرف لبنان بشكل تفصيلي. وبالفعل استطاع منصوري تخفيض الكتلة النقدية بالليرة إلى أقلّ من 60 ألف مليار ليرة والمحافظة على استقرار سعر الصرف. إلّا أنّ هذه الفترة لم تشهد "تنظيف" المركزي ولا الانطلاق بورشة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، والمالي. حيث شهدت هذه الفترة أيضا تعمّق الخلافات داخل "هيئة الأسواق المالية" التي يرأسها الحاكم وفقدانها للتمويل. الأمر الذي سيقودها إلى التعطيل مع نهاية السنة، كما سيتبيّن في الفصل الرابع والأخير من هذا العام.
تميّز شهر آب بإصدار "الفاريز آند مارسال" تقرير التدقيق الجنائي في مصرف لبنان. إلّا أنّ هذا التقرير المنتظر من أكثر من عامين لم يحجز مكاناً له في ساحة المحاسبة. ورغم تأكيده المؤكد بتفرّد الحاكم السابق رياض سلامة بالقرار ومحاباته السياسيين وأصحاب القرار، مرّ التقرير "مرور الكرام" ولم يلعب دوره الأساسي كدليل يستخدم في الإجراءات القانونية في المحكمة، لسببين: تحجّج الشركة بعدم وصولها إلى الكثير من المعلومات. واختفاء الحاكم بعد مخاصمته الدولة وتعطّل كلّ الاجراءات القانونية.
أمام تراكم المشاكل والتحديات برز في آب إعلان وزارة الطاقة والمياه بدء أعمال الحفر في البلوك رقم 9 البحري، وسط آمال باستخراج النفط قبل نهاية العام ومساهمته في تحسين وضع البلاد الاقتصادي المتردّي.
أيلول: "طرفه" بالنفط لم يكن بمبلول
تميّز شهر أيلول من العام الحالي بإنجاز وزارة المالية موازنة 2024 في مواقيتها الدستورية، وإحالتها إلى مجلس الوزراء لدرسها ومناقشتها. إلّا أنّ الإنجاز الذي وصف بالتاريخي نظراً لتأخّر الحكومات لأشهر عديدة بتقديم الموازنات، أتى لسببين كما ظهر لاحقاً:
الأول، اعتمادها على موازنة 2023، حتّى أنّ البعض وصفها بأنها "قصّ ولصق" عن الأخيرة.
الثاني، محاولة حشر مجلس النواب لدراستها وتعديلها وإحالتها للتصويت قبل نهاية العقد الثاني العادي للبرلمان. وفي حال فشله يعود للحكومة إقرارها كما وضعتها.
وحفلت موازنة 2024 بمجموعة كبيرة من الزيادات على الضرائب والرسوم، وبتقدير مخفّض للعجز بلغ 17 ألف مليار ليرة، واعتمادها على الاقتراض لسدّ العجز. وذلك على الرّغم من عدم وجود دائنين محتملين لا في الداخل بسبب الإفلاس، ولا في الخارج بسبب تخلّف الدولة عن سداد ديونها، وتراجع التصنيف الائتماني إلى أدني المستويات.
مثّل شهر أيلول "نقزة" على الصعيد النّفطي، فقبل نهايته بقليل أعلنت وزارة الطاقة عن تغيير موقع الحفر بعد أكثر من شهر على بدء العملية، وذلك نتيجة صعوبات تقنية واجهت المشغّل (كونسورتيوم الحفر المكوّن من: توتال إيني وقطر للطاقة) خلال عملية الحفر"، ومواجهته طبقة صخرية على عمق 35 متراً تحت أرض البحر. هذا الإجراء الذي وصف وقتذاك بالتقني، شكّل صدمة عند اللبنانيين ونذير شؤم عن احتمال عدم التوصّل إلى نتائج مرضية في هذا الملف تساعد على التخفيف من حدّة الأزمة الاقتصادية.
الأمور في أيلول لم تقف عند هذا الحد إنّما تخطّتها لنعي صندوق النقد الدولي الاتفاق مع لبنان الموقّع في نيسان 2022، عقب زيارته التفقّدية. فبعد 6 أشهر على اختتام بعثة مشاورات المادّة الرابعة مهمّتها في آذار الماضي، اعتبر الوفد أنّ مناقشة البرنامج لم تعد مطروحة بسبب عدم إحراز أيّ تقدّم في ما يتعلّق بالإجراءات التي التزمت بها السلطات وبسبب غياب المحاورين المؤسّسيين.
لعلّ أخطر ما في الفصل الثالث لا يتعلّق باستمرار الانهيار على كافة المستويات، إنّما بتكريس الإحباط بعدما تأمّل اللبنانيون خيراً من استحقاقات هذه الفترة.