لا تكاد عيون اللبنانيين تعتاد على لوائح الأسعار لبرهة، حتّى يأتي ما في الحسبان وما خارجه، ليشدّها صعوداً. الارتفاعات المتواصلة في أسعار مختلف السلع والخدمات التي فشلت الدولرة في لجمها، تتحضّر لوثبة جديدة. إذ ستستفيد قفزة الأسعار، المُتوقّع أن تكون طويلة، من طاقة مخزّنة محلياً عند الانطلاق، وستُكمل بدفعٍ من "انفجارات" الإقليم، لتصل حدود 20 في المئة مع مطلع العام القادم.
تفيد آخر البيانات المحلّية والدولية بأنّ لبنان "سجّل ارتفاعا في مؤشّر أسعار الاستهلاك بنسبة 2.6 في المئة في تشرين الثاني على مستوى شهري"، بحسب الإحصاء المركزي. فيما "تصدّر قائمة البلدان الأكثر تأثّراً بالتضخّم الاسمي لأسعار المواد الغذائية في الربع الأول من العام 2023"، بحسب بيان جديد للبنك الدولي. حيث توقّع أن "يتسارع معدّل التضخّم - الذي فاق الـ 100 في المئة منذ عام 2021 - إلى 231.3 في المئة في عام 2023، مدفوعاً بانخفاض سعر الصّرف (خلال النصف الأول من عام 2023) والدولرة السريعة للمعاملات الاقتصادية. هذا ما كان مرتقباً. أمّا المفاجأة فكانت بإلغاء صيرفة التي اعتمدت كمرجعٍ بسعر صرف متدنٍّ، وإلحاقها بسعر السوق. وتغيير الناقلات البحرية طريقها إلى موانئنا من مضيق باب المندب، فقناة السويس وصولاً للمتوسط، إلى الدوران حول رأس الرجاء الصالح، لتفادي هجمات الحوثيين في البحر الأحمر وارتفاع المخاطر الجيوسياسية.
الدولار الجمركي، الكهرباء، والاتصالات على سعر السوق الموازي
العاملان المستجدّان سيضيفان ارتفاعاً على الأسعار بنسبة تتراوح بين 10 و15 في المئة، وستصل إلى 20 في المئة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تدوير التجار للأرقام، ووضع هوامش أعلى بكثير من المعقول، وباختلافات واضحة وعميقة بين المحافظات والمدن اللبنانية. سبق أن فصّلتها دراسة جديدة صادرة عن الجامعة الأميركية، تناولناها في المقال (المداخيل بالدولار تحافظ على قوّتها الشرائية رغم التعويم العام للأسعار).
سيؤدّي إلغاء صيرفة التي ظلّت لفترة تعتمد سعر صرف يقلّ بحوالي 5 في المئة عن سعر السوق الموازي إلى الارتفاع بنسبة موازية في ثلاث قطاعات رئيسية:
- السلع المستوردة، باستثناء المواد الأولية وتلك المعفيّة من الرسوم الجمركية.
- الاتصالات الخلوية.
- الكهرباء، في حال استمرار إضافة نسبة التحوط التي يفرضها مصرف لبنان بنسبة 20 في المئة. أمّا في حال إزالتها فيفترض أن ينخفض دولار الكهرباء من حدود 103 آلاف ليرة إلى 89500 ليرة.
لبنان سيفتتح العام 2024 بارتفاعات كبيرة بأسعار السلع
كلفة النقل البحري.. تحلّق
الارتفاعات الأكبر في الأسعار والتي "قد تصل إلى 15 في المئة ستكون على البضائع المستوردة من الصين وشرق آسيا، التي تبلغ حصّتها 70 في المئة من مجمل الواردات اللبنانية"، يقول الخبير الاقتصادي الدكتور باسم البواب. "فمع إحجام ناقلات الحاويات عن المرور عبر الطريق الأقصر في البحر الأحمر إلى المتوسط، ستضطر إلى الدوران حول القارّة الإفريقية. وتتطلّب هذه الرحلة وقتاً أطول، وبالتالي كلفة أكبر، نتيجة خسارة الوقت وزيادة الانفاق على الوقود. الأمر الذي سينعكس مزيداً من التضخّم في الأسعار وانخفاضاً في القدرة الشرائية عند المواطنين". وبحسب البواب فإنّه "لا يوجد ما يحول دون هذا الواقع، إلّا عودة إبحار السفن عبر البحر الأحمر". وقد ترافق هذا الواقع مع ارتفاع كلفة التأمين على بدن السفينة بنسبة 0.5 في المئة من قيمتها الإجمالية وارتفاع كلفة التأمين على الحاويات من حدود 2000 دولار على الحاوية الواحدة إلى أكثر من 10 آلاف دولار. وهي أكلاف لن تتحمّلها شركات الشحن ولا المورّدين ولا التجار والمستوردين، إنّما ستضاف على سعر المنتج النهائي ويتحمّلها المستهلك.
عرقلة الصادرات الزراعية
الواردات السلعية لن تكون المتأثّر الوحيد بالتفاف البواخر، إنّما الصادرات أيضاً، ولاسيما الزراعية منها الأكثر حساسية لعامل الوقت. فمع انضمام الناقلة البحرية العملاقة CMA CGM إلى لائحة شركات الشحن التي تتفادى المرور عبر البحر الأحمر تراجعت حظوظ تصدير السلع الزراعية اللبنانية إلى الدول العربية بالسرعة المطلوبة. فـ "في ظلّ استمرار المملكة العربية السعودية في إقفال أبوابها أمام الصادرات اللبنانية إلى أسواقها أو حتّى المرور بها إلى بقية الدول العربية مثل الكويت، الإمارات، البحرين، مسقط وقطر، لم يعد هناك من بديل أمامنا إلّا النقل عبر البحر. وذلك على الرّغم من ارتفاع الكلفة وإطالة الوقت"، يقول رئيس تجمّع المزارعين والفلّاحين في البقاع إبراهيم الترشيشي. "كنّا ننقل البضائع الزراعية إلى تلك الوجهات بمعدّل 3 رحلات أسبوعياً". ومع التطوّرات الجديدة في عالم الملاحة البحرية "تعطّل جدول المواعيد وتكّدست البضائع في المرفأ، ونخشى من تلفها في حال لم يتمّ تسفيرها بسرعة"، يضيف الترشيشي. وبرأيه أنّ "الحلّ الأسرع اليوم لمواجهة هذا الواقع هو بتوسّط الحكومة اللبنانية مع السعودية لإعادة فتح الطريق البريّة. الأمر الذي يمثل حلا دائماً".
إلّا أنّ رغبة المصدّرين اللبنانيين، بعودة فتح الطريق البريّة ما زالت تواجه بثلاثة عوائق رئيسية:
- ارتفاع كلفة المرور بالأراضي السورية نتيجة زيادة رسوم العبور.
- إقفال المعابر البريّة بين لبنان وسوريا أمام الشاحنات أو بينها وبين الأردن والعراق بشكل فجائي بين الفترة والأخرى.
- إصرار المملكة العربية السعودية على عدم الاستيراد من لبنان أو حتّى مرور الشاحنات بأراضيها قبل إيجاد حل جذري لتهريب الممنوعات عبر الشحنات. وهو الموضوع الذي ما زال لبنان يهمله بدليل عدم تفعيل الرقابة الجدّية على المعابر البريّة والبحريّة وعدم إخضاع كلّ الشحنات للسكانر ووقف التهريب عبر حدوده البريّة.
أمام كلّ هذه التطورات يظهر أنّ لبنان سيفتتح العام 2024 بارتفاعات كبيرة بأسعار السلع. هذا إذا افترضنا بقاء سعر الصرف في السوق الموازي أقلّ من 90 ألف ليرة. أمّا في حال عودة سعر الصرف إلى الارتفاع فإنّ الأسعار سترتفع اكثر، هابطة بالقدرة الشرائية إلى أدنى المستويات.