إنّ حقيقة ما جرى في السابع من تشرين أول ما هو إلّا نتيجة حتمية للقصور في المشروع الصهيوني الذي قام على فرضيات وهمية وظّفت لصالح مشاريع الهيمنة الغربية في المنطقة العربية
لا شكّ أنّ ما جرى في السابع من تشرين أول 2023 يتجاوز مسألة هجوم قامت به حركة المقاومة الإسلامية حماس ضد الكيان الصهيوني. كذلك فإنّ ما جرى في هذا اليوم يتجاوز موضوع الضرر الكبير الذي لحق بالأمن القومي الصهيوني وعقيدته الأمنية، كما يتجاوز الضربة التي لحقت بالمشروع الأميركي في الشرق الأوسط في إقامة نظام إقليمي قائم على الدور المحوري لإسرائيل وعلى الهيمنة الأميركية المطلقة على المنطقة والذي كان قد افتتح عبر إطلاق مشروع الممرّ الهندي الشرق أوسطي الأوروبي.
إنّ حقيقة ما جرى في السابع من تشرين أول ما هو إلّا نتيجة حتمية للقصور في المشروع الصهيوني الذي قام على فرضيات وهمية وظّفت لصالح مشاريع الهيمنة الغربية في المنطقة العربية بدءاً من المشروع الفرنسي لنابوليون الكبير في أوائل القرن التاسع عشر وابن أخيه نابوليون الثالث في النّصف الثاني من القرن التاسع عشر، مروراً بمشروع الهيمنة البريطاني في النصف الأول من القرن العشرين وصولاً إلى مشروع الهيمنة الأميركي على المنطقة الذي انطلق بعد الحرب العالمية الثانية وحتّى يومنا هذا.
وإن كان صعود مشروع الهيمنة الغربي في العالم في النّصف الثاني من القرن الثامن عشر قد خدم المشروع الصهيوني وذلك عبر إعطاء دور ريادي للرأسمالية اليهودية متمثّلة بالدرجة الأولى بعائلة روتشيلد التي استطاعت عبر سلطتها المالية فرض هيمنتها على اقتصادات أوروبا الغربية، وعبر منح المشروع الصهيوني رعاية قوية مكّنته من تجاوز تناقضات الأوهام التي قام عليها. وهذا ما مكّن المشروع الصهيوني من تحقيق انتصارات على مدى قرن من الزمن في إطار حلمه بتشكيل وطن قومي لليهود على أرض فلسطين التاريخية.
ففي العام 1882، وعلى وقع الهزيمة العثمانية على يد الروس (1876 – 1878) ومؤتمر برلين (1882) الذي قسّم العالم بين القوى الأوروبية الميهمنة، أقام الصهاينة أول مستوطنة لهم في منطقة الجليل. وفي العام 1917 وبعد أسابيع على دخول قوات الجنرال البريطاني اللنبي إلى القدس تمّ الإعلان عن وعد بلفور الذي نظر بعين العطف لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وخلال مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين بين العامين 1920 و1948 تمكّن الصهاينة من زيادة هجرتهم إلى "أرض الميعاد" كما سيطروا على المؤسسات المدنية في فلسطين وكوّنوا جيشاً برعاية بريطانية. وبعد الحرب العالمية الثانية استفاد الصهاينة من رعاية المنتصرين في الحرب العالمية الثانية لإقامة دولة في العام 1948 على جزء من أرض فلسطين. ومع انطلاق مشروع الهيمنة الأميركية على يد المحافظين الجدد في العام 1965 حقّق الصهاينة مبتغاهم بالسيطرة على كامل فلسطين التاريخية خلال حرب الأيام الستة في العام 1967. وبعد هزيمة الاتّحاد السوفياتي في الحرب الباردة وانهياره في العام 1991 وصعود نظام الأحادية القطبية فإنّ الصهاينة، وتحت غطاء السلام، بدأوا بتهويد الأراضي المحتلّة وزيادة الاستيطان في الضفّة الغربية، وبالتوازي مع انطلاق آخر مرحلة من مراحل تحقيق الهيمنة في الشرق الأوسط على يد جورج بوش الابن (2001-2009) فإنّ المشروع الصهيوني بدأ بتنفيذ آخر مرحلة من مشروعه وهي الهيمنة على المشرق من النيل إلى الفرات والذي تمّ التعبير عنه خلال عهد الرئيس دونالد ترمب (2017- 2021) عبر صفقة القرن والاتفاقات الإبراهيمية وعبر مشاريع التقسيم في منطقة الهلال الخصيب.
حركات المقاومة سيكون لها دور في مواجهة الهيمنة الإسرائيلية والأميركية في المنطقة على وقع صعود القوى الاوراسية.
لكنّ التغييرات في موازين القوى الدولية في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين ستضع العراقيل أمام المشروع الصهيوني في المنطقة. فبدءاً من السبعينات من القرن الماضي بدأت الصين في مشروع نهوضها والتحوّل إلى قوة اقتصادية وسياسية عظمى. وتاريخياً فإنّ إيران تشكّل شريكاً جيوسياسياً للصين بصفتها جسر عبور لتجارة شرق آسيا باتّجاه شرق المتوسط. بالتالي لا يمكن فهم انتصار الثورة الإسلامية في إيران ومناداته بخطاب إسلامي مناهض للهيمنة الأميركية إلّا في إطار نهوض الصين ومناداتها بنظام عالمي مناهض للهيمنة الغربية. ولأنّ إيران ترنو بأنظارها إلى شرق المتوسط فإنّها بعد عام من انتصار الثورة سارعت إلى إقامة تحالف استراتيجي مع سوريا البعثية القومية. إضافة إلى ذلك بدأت بدعم مقاومة في لبنان ضدّ الاحتلال الإسرائيلي بدءاً من العام 1982. وبعد ذلك نقلت هذا الدعم إلى حركات المقاومة الفلسطينية، وحتّى إلى الحشد الشعبي في العراق بعد الغزو الأميركي في العام 2003 وإلى أنصار الله في اليمن بعد العام 2014.
إنّ حقيقة ما جرى في السابع من تشرين أول ما هو إلّا نتيجة حتمية للقصور في المشروع الصهيوني الذي قام على فرضيات وهمية وظّفت لصالح مشاريع الهيمنة الغربية في المنطقة العربية
وبالتوازي مع هذا فإنّ حركات المقاومة سيكون لها دور في مواجهة الهيمنة الإسرائيلية والأميركية في المنطقة على وقع صعود القوى الاوراسية. ولقد كان لافتاً أنّ أول نصر تحقّقه المقاومة في لبنان والذي تمثّل بالانسحاب الإسرائيلي غير المشروط بعد 22 عاما من الاحتلال جاء على وقع تغيير في رأس هرم السلطة في روسيا، والذي تمثّل بانتخاب فلاديمير بوتين رئيساً وبدئه عملية ترميم للقوّة الرّوسية التي تداعت في عهد بوريس يلتسين (1991-2000). كذلك فإنّ الانتصار الثاني الذي حقّقته المقاومة في لبنان جاء بعد تشكيل منظمة شنغهاي للتعاون في العام 2001 وعلى وقع تعثّر المشروع الأميركي في السيطرة على العراق نتيجة تصاعد المقاومة المسلّحة المدعومة من إيران وسوريا. وفي هذا الإطار يمكن فهم الانتصارات التي حقّقتها المقاومة الفلسطينية والتي أجبرت إسرائيل على الانسحاب من قطاع غزّة في العام 2005 وصعود قوة حماس في القطاع بدعم إيراني بعد ذلك والذي جاء على وقع تشكيل منظومة بريكس بعد العام 2009 والتي باتت تشكّل التحدّي الأكبر للهيمنة الأميركية في العالم.
كلّ هذ جاء على وقع التراجع التدريجي في الهيمنة الأميركية في العالم والذي وصل إلى حدّ الإعلان عن أزمة داخلية كبيرة تجلّت في الصراع غير المسبوق على السلطة بين الرئيس السابق ترامب الذي يسعى لإعادة انتخابه، والرئيس الحالي جو بايدن الذي تقف إدارته مشلولة في مواجهة التحديات الكبرى التي تواجهها. كلّ هذا زاد من أزمة المشروع الصهيوني الذي تصاعدت تناقضاته على وقع تراجع مفعول الرعاية الدولية، وهو ما مكّن حماس من تحقيق إنجازها في السابع من تشرين أول، وللمقال تتمة في الأسبوع المقبل.