منذ الثامن من تشرين الأول الفائت يتمّ، في الأروقة السياسية والإعلامية، ربطٌ مُحكَم بين الحرب في قطاع غزة وعمليات الإسناد أو "المشاغلة" التي أطلقها "حزب اللّه" من جنوب لبنان، واستطراداً ربط هاتَين الحرب و"المشاغلة" بالوضع السياسي اللبناني الداخلي لجهة توظيف نتائجهما في ترسيم الاستحقاقات، رئاسةً وقيادةً وحكومةً وتشريعاً، وربما تعديلات بنيوية في النظام.

فهل هناك فعلاً ربط حقيقي ومحسوم بين المواقع الثلاثة، غزة والجنوب والداخل اللبناني، في خط مستقيم أو متعرّج، أم أنّ الربط هو مجرّد طرح نظري وأمنياتي لا ترجمات له على أرض الواقع؟

يتبادر إلى الذهن فوراً أنّ ربط الأمور الثلاثة طبيعي وواقعي، طالما أنّ "حزب اللّه" ووراءه إيران ربط علناً الجنوب وسائر لبنان بتطوّرات غزة على خلفية "توحيد ساحات المقاومة".

ما يمكن تأكيده، حتّى الآن، هو الربط الميداني النّسبي بين جنوب لبنان وغزة، ولو كان هذا الربط مضبوطاً إلى حدّ كبير، وغير متماثل، بمعنى أنّ ما يحصل هناك في غزّة أعنف وأقسى وأشرس بكثير ممّا يدور هنا، ولم يتّضح مدى التأثير الإيجابي لـ"هنا" على "هناك"، لدرجة أنّ أصواتاً بدأت تخرج من أوساط "الحزب" وبيئته وحلفائه، وتشكّك في جدوى الإسناد و"المشاغلة" المستمرَّين منذ 70 يوماً، وتتساءل عن فداحة الأثمان البشرية والاقتصادية والاجتماعية ومجانيّتها في مواجهة ملتبسة ومتأرجحة بين مناوشة وحرب.

أمّا الحلقة الثالثة من الربط الثلاثي، أي الدّاخل السياسي اللبناني، فلم يظهر أيّ مؤشّر إلى عقدها على الحلقتين الأخريين. فكلّ ما تمّ تسريبه عن مفاوضات ومساومات، برعاية أميركية عبر الموفد عاموس هوكشتاين، وفرنسية عبر الموفدَين جان إيڤ لودريان وبرنار آيميه وغيرهما من أمنيين ودبلوماسيين، لم يتخطَّ حدود الجنوب، سواءٌ بالتطبيق الكامل للقرار الدولي 1701 وإخلاء جنوب الليطاني من سلاح "الحزب" والمنظّمات الأخرى، أو بتظهير الحدود البرية وحلّ إشكاليات النقاط الـ 13 على الخطّ الأزرق ومسألة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وخراج بلدة الماري.

وضع مجلس النوّاب يده العاقلة على ملفّ التمديد، فحسَمه لمدة سنة مُسقطاً ما سبق من مناورات ومكائد

وقد يكون أطراف هذه المفاوضات ورعاتها يتقصّدون إطلاق بالونات تجريبية أو تسريبات صحافية لجسّ النبض، مثل إشراك "الحزب" في أبراج المراقبة، أو نشر قوّات أميركية على الجانب الإسرائيلي، أو الاتفاق على عدد كيلومترات الانسحاب، أو استرضاءات لهذا الطرف أو ذاك، لكنّ الواضح أنّ مبدأ التسوية في الجنوب نال موافقة الطرفين، بعدما كانت لهما تجربة ناجحة ومستقرّة في ترسيم الحدود البحرية، مع استعداد لتكرارها، ولا يحجب دويّ المدافع والصواريخ والمسيّرات، مهما علا أو هبط، حقيقة هذه المفاوضات وهذا الاستعداد.

وكانت هناك فرصة أولى ومهمّة لاختبار مدى ربط الاستحقاقات الداخلية اللبنانية بحلقتَي غزّة والجنوب، وحقيقة الشروط والوعود بتعويضات سياسية، وما إذا كان هناك سلفة لـ"حزب اللّه"، أو دفعة معجّلة أو مؤجّلة على الحساب من ثمن موافقته على ترتيبات الجنوب، لكنّ ما جرى في مسألة التمديد عبر جلسة متعجّلة للحكومة لتأجيل تسريح قائد الجيش أثبت عدم تمدّد وضع الجنوب إلى بيروت، وفشل الحصول على ثمن بعد فشل عقد الجلسة.

ومعلوم أنّ الطرف الذي استعجل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وضغط عليه لعقد جلسة التأجيل استباقاً لمجلس النوّاب المدعو لإقرار التمديد، هو "حزب اللّه"، بهدف مسايرة "التيار العوني"، وعدم تعميق الهوّة بين طرفّي "التفاهم".

هذا الفشل كشف أنّ ما جرى ترويجه عن مقايضة بين الجنوب والداخل لم يكن واقعياً، أو على الأقلّ لم يكن سهلاً، وأنّ الحلقة الثالثة من مثلّث الرّبط غير مطروحة في "بازار" الجنوب، وغير مربوطة بغزة، سواء صمدت "حركة حماس" أو انهزمت، وبغضّ النّظر عن مؤديات الهجوم الإسرائيلي.

فما لغزّة هو لغزّة ولفلسطين بالحلول التي تُرسم لهما، وما لجنوب لبنان هو للجنوب بترتيباته وتسوياته، وما للداخل اللبناني هو للداخل بتوازناته غير القابلة للتجيير أو الكسر.

والدليل هو وضع مجلس النوّاب يده العاقلة على ملفّ التمديد، فحسَمه لمدة سنة مُسقطاً ما سبق من مناورات ومكائد، لما في تركيبة هذا المجلس من تنوّع وطني وتوازن، خلافاً لأحادية الحكومة وانتمائها إلى فريق سياسي واحد.

لذلك، فإنّ ما جرى يفتح نافذة أمل على أنّ لبنان لن يكون بين جوائز الترضية على خرائط النفوذ والحلول، وحساب الغالب والمغلوب، ولا عقاراً مسجّلاً لمحور بعينه، ولا كرة على قارعة لعبة الأمم.