أهمية الحفاظ على هيئة الأسواق المالية وتطويرها يتلخص في الدور المهمّ الذي يجب أن تلعبه في عملية الإصلاح المستقبلية...

شكّلت استقالة الدكتور واجب قانصو من عضوية مجلس إدارة "هيئة الأسواق المالية"، صدمة حقيقية في القطاع المالي. فالتنحّي جانباً في هذه الظروف يعني انتصار التعطيل داخل "الهيئة"، على محاولات التوافق والإصلاح. المشكلة تتخطّى إضافة فراغ جديد في مجلس الإدارة، سيضاف إلى شغور كرسي مدير عام المالية بسبب عدم تعيين مدير عام أصيل، ومنصب عضو مجلس إدارة الهيئة وليد القادري بسبب الاعتكاف، لتصل المسألة إلى العمل على أقفال الهيئة. وهو على ما يبدو أمر مخطّط له، بدأ العمل عليه منذ ثلاث سنوات، إمّا بالإهمال وعدم الاهتمام، أو بالقصد من خلال نسف الإصلاحات والتعديلات والأنظمة الجديدة والمتطوّرة كالـ peer to peer lending والتي كانت الهيئة بصدد تنظيمه وقوننته بهدف تأمين بديل عن قروض المصارف المتوقّفة لتمويل الشركات والأعمال والأفراد، وبالتّالي إعادة إطلاق العجلة الاقتصادية.

في الوقت الذي كانت تشخص فيه أعين المستثمرين إلى استئناف مجلس إدارة هيئة الأسواق المالية اجتماعاته برئاسة الحاكم بالإنابة، للبتّ بطلبات الترخيص العالقة منذ أكثر من عام، تفاجأت باحتمال انضمام الهيئة لأقرانها من الهيئات الرقابيّة المعطّلة. وذلك خلافا لتوصيات كلّ من صندوق النّقد والبنك الدولي، ومختلف الجهات المانحة بتشكيل وإعادة تفعيل دور الهيئات الناظمة. ومنها: الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء والاتصالات والطيران، والمجلس الأعلى لمكافحة الفساد، والهيئة المعنية بمكافحة الاحتكار وتعزيز المنافسة في الأسواق.

"الهيئة" تصل إلى حائط مسدود

ما كتبه قانصو من كلمات في بيان استقالته، وما عناه في ما لم يكتبه من كلمات، يُظهر الوصول إلى حائط مسدود داخل "الهيئة". إذ "مع انعدام أيّ أفق قريب لتنفيذ الإصلاحات الهيكلية لاستعادة الاستقرار المالي بسبب غياب الإرادة السياسية الفاعلة، ومع اسْتِمرار نهج تمديد الشَّلَل والتَّعطيل في مؤسسات الدّولة كافّة، يَعْمَدون اليوم إلى الإطاحة بما تبقَّى من ركائز في القطاع المالي. ولاسيَّما الجهات الرقابيّة منها، ألا وهي هيئة الأسواق المالية"، بحسب البيان. وذلك على الرّغم من كلّ الجهود "التي قامت بها الهيئة في الإعداد لمنظومة قانونية متكاملة بالتعاون مع البنك الدولي لمراقبة الأسواق المالية اللبنانية وتنظيمها وتطويرها".

المشكلة الأولى... ماليّة

قانصو يعيد في حديث خاص مع "الصفا نيوز" سبب المشكلة الرئيسية إلى "فقدان الهيئة لمصدر تمويلها. وذلك بغضّ النّظر عن كلّ الإشكالات الحاصلة داخل مجلس الإدارة". سواء لجهة المناكفات، أو الالتزام بحضور الأعضاء الاجتماعات من عدمه. "وقد وصلنا في موضوع التمويل إلى باب مقفل"، يقول قانصو. "لا الحكومة أخذت مبادرة بشخص رئيسها لتمويل ودعم هيئة الأسواق المالية بمساهمة معيّنة. ولا المصرف المركزي مستعدّ أن يأخذ هذا الموضوع على عاتقه، بحجّة إصراره على عدم تمويل مؤسسات الدولة". ومع العجز الفاضح عن دعم الهيئة وتمويلها ستتجه حكماً للإقفال في غضون أسابيع قليلة، وقد يكون حدّها الأقصى شهر شباط 2024 "، يضيف قانصو. وقد بدأت بالفعل ملامح الانهيار تظهر في عمل الهيئة من خلال ازدياد وتيرة الاستقالات وطلبات الاستيداع، ولا مبالاة الكثير من أعضائها وخروجهم في عطلات أو لتنفيذ أعمال خارج البلاد، وعدم الحضور إلّا نادراً إلى مكاتب الهيئة في شارع الحمرا.

التمويل الأساسي للهيئة كان يتم سابقاً عبر قرض من مؤسسة لبنان المالية، وظّفته "الهيئة" في سندات الخزينة. كما تموّل الهيئة نفسها عن طريق الاشتراكات التي تدفعها المؤسّسات المالية المرخّصة، ومن المخالفات. إلّا أنّ مؤسّسة لبنان المالية أقفلت بسبب الأزمة. ولم تعد قيمة اشتراكات الشركات المرخّصة تكفي، هذا عدا عن تراجع عددها بشكل كبير جداً بسبب عدم ترخيص الهيئة لمؤسّسات جديدة نتيجة المناكفات السياسية والشخصية بين أعضاء مجلس الإدارة، إضافةً لإهمال هذا القطاع من قبل مصرف لبنان والقيّمين عليه. أمّا عن رسوم المخالفات فهي معطّلة أيضاً بسبب عدم تفعيل لجنة العقوبات التي أناط بها قانون 161/ 2011 ملاحقة المخالفات، وعدم تشكيل المحكمة الخاصّة بالهيئة. وعليه لا تمتلك الهيئة القدرة على رصد وملاحقة كلّ البورصات غير المرخّصة، إلّا في حال تقديم شكوى بحقّها أمام الهيئة. وتضطر عند إنجاز التحقيق، إلى إحالة المخالفين إلى القضاء المدني أو الجزائي. وهذا يتطلّب الكثير من الوقت نتيجة وضع القضاء وعدم وجود خبرات كافية في هذا المجال.

الخلاف مع الحاكم ونوّابه

مصادر متابعة تفيد بأنّ التضييق على التمويل بدأ مع تعيين مجلس جديد لحاكمية مصرف لبنان في حزيران 2020. وقد تظهّر الموقف السلبي منذ قرابة العام ونصف العام مع رفض نوّاب الحاكم تجديد القرض الذي تستفيد منه "الهيئة" من مؤسسة لبنان المالية بحجة عدم قانونية الموضوع. ومع مرور الوقت تعقّدت الأمور أكثر نتيجة تفاقم الخلافات بين أعضاء مجلس إدارة الهيئة، وبينهم وبين الأمانة العامّة. الأمر الذي دفع الحاكم بالإنابة إلى "فقدان الأمل بأيّ إصلاح مرتجى"، بحسب المصادر. "فأخذ زمام المبادة في أكثر من ملفّ من دون الرجوع إلى مجلس الإدارة. ولم يعد يعطي مواعيد لأيّ أحد من أعضائه".

المعالجة تبدأ مع فصل هيئة الأسواق المالية عن المصرف المركزي

ضرب الاصلاحات

بغضّ النّظر عن كلّ ما تقدّم، يبقى من غير المفهوم كيف يمكن لدولة تدّعي العمل على إنقاذ قطاعها المالي والمصرفي أن تطيح بهيئة الأسواق المالية. فهذه الهيئة يفترض بها أن تكون ركيزة أساسية في عملية الإصلاح الاقتصادي والمالي. خصوصاً من بعد قيامها بعمل جبّار منذ العام 2013 من خلال الأنظمة التي تمّ وضعها بالتعاون مع البنك الدولي. واستطاعت من خلالها مسك السوق ومراقبته بعد سنوات من الفلتان. وبحسب المصادر المتابعة فإنّ "الجهود كانت منصبّة خلال الفترة الماضية على وضع آلية لإعادة تفعيل الهيئة. خصوصاً أنّ غيابها أو ضعف دورها، سيعود ويسمح بتفشّي مكاتب التداول والبورصات غير الشرعية التي قد تحتال على اللبنانيين من دون حسيب أو رقيب وتنزل بهم خسائر فادحة. إلّا أنّ ما جرى كان عكس كلّ الطموحات. فبدلاً من إعادة هيكلة الهيئة وتخفيض عدد موظّفيها وتفعيل دورها وزيادة مواردها، تفشّت الخلافات أكثر وبدأت الاستقالات. وهذ ما لن ينعكس على المستثمرين الشرعيين والمواطنين فحسب، إنّما سيوصل رسالة بالغة السلبية للمجتمع الدولي الذي لم ينفكّ يطالب بتفعيل الهيئات الرقابية".

الأوان لم يفت على الإصلاح

الإصلاح ما زال ممكناً معنوياً، قانونياً ومادياً. حيث يكفي الهيئة مبلغ مليون دولار سنوياً لإعادة تفعيل دورها. أمّا من النّاحية القانونية فإنّ الإصلاح يتطلّب معالجة القانون 161، أي قانون إنشاء هيئة الأسواق المالية من أساسه. فالقانون بحدّ ذاته يتضمّن خللاً جوهرياً. فهو يتكلّم عن استقلالية هيئة أسواق من جهة ويربط رئاستها بحاكم المصرف المركزي من الجهة الثانية. والمجلس المركزي في مصرف لبنان، أو نوّاب الحاكم، يرفضون تمويل هيئة أسواق، الحاكم هو رئيسها. وهذه قمّة التناقض. وعليه فإنّ المعالجة تبدأ مع فصل هيئة الأسواق المالية عن المصرف المركزي، وإعطاء أوسع هامش للاستقلالية للعمل. أمّا في ما يتعلّق بالتمويل الذاتي فيجب أن تخصّص نسبة من وزارة المالية ونسبة من المصرف المركزي، بالإضافة إلى مساهمات الشركات المدرجة. علماً أنّ اغلبيّة الشركات المرخّصة أو قيد الترخيص أبدت استعدادها للمساهمة بتمويل الهيئة لتمكينها من القيام بدورها حماية للمستثمرين، كما وحمايةً للشركات المرخّصة من مضاربة السوق السوداء.

أهمية الحفاظ على هيئة الأسواق المالية وتطويرها يتلخص في الدور المهمّ الذي يجب أن تلعبه في عملية الإصلاح المستقبلية. وهذا لا يتمّ من خلال إقصائها لتخفيض التكاليف العامّة، إنّما بتطويرها وتطوير بورصة بيروت. فلهذه الأخيرة قصّة لا تقلّ تعقيداً. ويكفي القول إنّ مرسوم خصخصة البورصة توقّف بسبب الخلاف على تعيين ثلاثة أعضاء في الشركة الانتقالية. مع العلم أنّ مجلس الإدارة الانتقالي مدّته عام واحد وأعضاؤه لا يستفيدون من أيّ تعويضات.. وللبحث تتمة.