مشروع موازنة العام 2024، يتوقّع إيرادات (عادية) بقيمة 259 تريليون ليرة، كلّها تأتي من استحداث الضرائب.
حتّى تاريخ كانون الأول من العام 2021، كانت وزارة المال تنشر على بوّابتها الإلكترونية مُلخّصاً شهريهاً عن أداء المالية العام للدوّلة. ويتضمّن هذا الملخّص، الإيرادات والنّفقات بالإضافة إلى إحتساب الميزان الأوّلي الذي يُعتبر عُنصراً جوهرياً في احتساب الإنتظام المالي للدوّلة. لكن ومنذ ذلك التاريخ، توقّفت وزارة المال عن نشر هذا التقرير الشهري لأسباب لا يعلمها إلّا القيمون على الأمر في وزارة المال.
بالطبع هذا الأمر عائق أساسي أمام المراقبين والإقتصاديين لملاحقة أداء المالية العامّة وبالتالي معرفة أرقامها، خصوصًا وأنّ هناك غياباً كلّياً (خلافاً للدستور) لقطوعات الحساب منذ العام 2003! وبالتالي ومنذ كانون الأول 2021، يلفّ الغموض المالية العامّة من دون معرفة الإيرادات ولا الإنفاق الفعّلي أللهم إلّا ما يتمّ إدراجه في مشاريع الموازنات التي يُفترض أنّها قريبة من المُحقّق، بحكم أنّ الموازنات كانت كلّها تأتي بنهاية العام مما يجعل المُحقّق على الأرض أمرًا واقعًا ومُشرّعًا، بإستثناء موازنة العام 2024 التي تمّ إرسالها في مواعيدها الدستورية مع الكثير من الضرائب فيها.
ثلاثة أشهر ونيّف مرّت على إنتهاء ولاية حاكم المصرف المركزي السابق رياض سلامة الذي كان يُموّل الحكومة ويتدخّل في السوق (الرسمي وغير الرسمي) من خلال التعاميم وبالتحديد التعميم 161 الذي كان يُشكّل الأداة الأساسية للمركزي للتدخّل في السّوق غير الرسمي. إلّا أنّه ومع وصول حاكم المركزي بالإنابة وسيم منصوري إلى سدّة الحاكمية، قام بإلغاء التعميم 161، وهو ما يعني توقّف المصرف المركزي عن سحب الليرات من السوق. إذًا وفي هذه الحالة، كيف يُمكن تبرير الإنخفاض الحاصل في الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية بالتداول والتي إنخفضت 2.27 تريليون ليرة لبنانية خلال شهر تشرين الأوّل من هذا العام؟
الجواب على هذا السؤال ليس بالسّهل خصوصًا أنّ هناك عمليات تجري بين المصرف المركزي والمصارف بشكل شبه يومي. إلّا أنّه من غير المنطّقي القول أنّ هذا الإنخفاض – أي 2.27 تريليون ليرة وهو ما يوازي 268 مليون دولار أميركي – ذهب من المصارف باتجاه المصرف المركزي. في الواقع السيناريو الأكثر إحتمالًا هو أنّ هذه الكتلة النّقدية بالليرة اللبنانية تُشكّل في قسم كبير مجموع الفواتير والرسوم والضرائب التي تجنيها الدوّلة اللبنانية من المواطنين والشركات خلال شهر واحد، أي ما يوازي 27.3 تريلون ليرة لبنانية سنويًا. بكلّ بساطة يُمكن القول أنّ هذا هو دخلّ الدوّلة الفعلي (الكاش) بحدّه الأدنى منذ بداية تشرين الأول من هذا العام.
وإذا ما أخذنا في عين الإعتبار أرقام مشروع موازنة العام 2023 والذي توقّع إيرادات بـ 175 تريليون ليرة، يُطرح السؤال عن حقيقة عجز موازنة العام 2023 وإذا ما كانت فعّليًا بحدود الـ 50 تريليون ليرة لبنانية كما نصّ عليه المشروع أم أننا بعيدون عن هذا الرقم؟ كمّ يُشكّل الكاش من مدخول الدوّلة كنسبة مئوية؟ لماذا لا يتمّ نشر التفاصيل؟ لا نعلم!
لغت الحكومة السياسة النقدية لصالح السياسة المالية وأصبحت تتحكّم بسعر الصرف من خلال الموازنة
مشروع موازنة العام 2024، يتوقّع إيرادات (عادية) بقيمة 259 تريليون ليرة، كلّها تأتي من استحداث الضرائب. وإذا كان قسم من هذه الإيرادات يأتي بالعملة الصعبة (الضرائب على المداخيل بالعملة الصعبة مثلًا) إلّا أنّ السؤال هو عن كيفية دفع باقي الضرائب بالليرة اللبنانية وبالكاش وهي جزء كبير من الإيرادات؟ في الواقع هناك دافعان أساسيين لرفع الضرائب بهذا الكمّ:
الدافع الأول – يأتي من منطلق أنّ الحكومة لم يعد لها أيّ مورد مالي إلّا من خلال الضرائب وبالتالي رفعت الضرائب لتُحقّق توازنًا في الميزانية؛
الدافع الثاني – يأتي من منطلق أنّ إلزام المواطنين والشركات تسديد الفواتير والضرائب والرسوم بالليرة اللبنانية وبالكاش، يؤدّي حكمًا إلى سيطرتها على الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية كما حصل خلال شهر تشرين الأول من هذا العام، خصوصًا أنّ المصرف المركزي لم يعد له أيّ قدّرة على التدخّل في السّوق بعد إنهيار أداة الفائدة وبعد وقف العمل بالتعميم 161.
إذًا وبكلّ بساطة ألغت الحكومة السياسة النقدية لصالح السياسة المالية وأصبحت تتحكّم بسعر الصرف من خلال الموازنة التي تحوي على إجراءات ضريبية أقلّ ما يُقال عنها أنّها عملية خنق فعلي للنشاط الإقتصادي.
فهل لها الحقّ القيام بما تقوم به؟
عملياً، النظرية الإقتصادية تنصّ على عدم فرض ضرائب على النشاط الإقتصادي خلال فترة الأزمات والإعتماد على مداخيل أخرى بهدف إعادة تحفيز الإقتصاد ومن ثمّ تفرض ضرائب عند عودة النشاط. إلّا أنّ الحكومة خالفت هذا المبدأ لعلمها (وهذا نقلًا عن مصدر وزاري) أنّ الإستيراد في لبنان لا يزال بحدود العشرين مليار دولار أميركي وهو ما يعني أنّ النشاط الإقتصادي قائم وبالتّالي فإنّ الإجراءات الضريبية مُبرّرة. إلّا أنّ ما نسيته الحكومة أو تناسته هو أنّ هذا النشاط لا يأتي من الماكينة الإقتصادية اللبنانية بل هو نشاط إقتصاد خارجي يتمّ إستيراده إلى لبنان. أمّا عن كيفية تمويل هذا الإستيراد، فهذا حديث آخر، شغل بال مجموعة العمل المالي الدولية والخوف من عمليات تبييض أموال في الماكينة الإقتصادية حيث سيتمّ تقييم الوضع من قبل المجموعة في الربع الأول أو الثاني على أبعد حدّ من العام 2024.
في الختام يُمكن القول أنّ الحكومة التي تناست مُشكلة دينها العام في موازنات الأعوام 2020 إلى 2024، لن تستطيع تأمين إيراداتها المنصوص عليها في مشاريع الموازنات بحكم التهريب الجمركي والتهرّب الضريبي وهي بالتالي تتجّه نحو الخدمات العامّة والأجور التي يُمكن تحصيلها الضرائب والرسوم عليها بسهولة، وترفع التعرفة بشكل عشوائي لا ينمّ عن أيّة معرفة بنتائج إجراءات من هذا النوع.