ضجيج الحوسَبة الكمّومية بدأ يدوّي في العديد من الصناعات والتخصّصات الأكاديمية.
ليس ثمّة مبالغة في توصيف الحوسَبة الكمّومية (Quantum Computing) بالتكنولوجيا الثورية التي تَعِد بتغييرات تكتونية في عديد المجالات في مقبل السنوات. والسبب: استغلالها لظواهر ميكانيكا الكمّ لتنفيذ عمليات حوسَبة معقَّدة تماماً، في سرعة لامتناهية، مقارَنةً مع أجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية القائمة على رقائق السيليكون.
ضجيج الحوسَبة الكمّومية بدأ يدوّي في العديد من الصناعات والتخصّصات الأكاديمية. صحيح أنها لا تزال في أولى مراحل البحث النظري والتطوير التجريبي، إلّا أنّ آفاق بلوغها حدّ الابتكارات التطبيقية واعدةٌ للغاية. وهنا بعض الأرقام: قبل حوالى عشر سنوات، لم يكن هناك سوى عدد محدود من أجهزة الكمبيوتر الكمّومية عالمياً، ليقفز العدد في 2018 إلى أكثر من 100 جهاز. ووفقاً لتقرير لشركة ماكينزي، جرى في 2022 فقط ضخّ استثمارات قيمتها 2.35 مليار دولار في شركات ناشئة في مجال التكنولوجيا الكمّومية.
التنافُس بين عمالقة التكنولوجيا على أشدّه أيضاً. في نيسان الماضي، تحدّثت تقارير عن تصميم شركة "غوغل" لكمبيوتر كمّي قادرٍ، في لحظات معدودة، على تنفيذ عمليات حسابية تحتاج أكثر أجهزة الكمبيوتر التقليدية تقدّماً قرابة نصف قرن لمعالجتها. "غوغل" نفسها سبق وأعلنت قبل نحو أربع سنوات "التفوّق الكمّي"، إذ ادّعى علماؤها إثبات تفوُّق الكمبيوتر الكمّي المطوَّر في مختبراتهم على نظيره الكلاسيكي. وفي تمّوز الماضي، أعلن علماء في شركة IBM تطوير طريقة لإدارة عدم الموثوقية الكامنة في المعالجات الكمّومية، في اختراقٍ يجعل أجهزة الكمبيوتر الكمّومية تقارِع الأجهزة التقليدية. الصينيون، بدورهم، طوّروا في تشرين الأول الماضي نموذجاً أوّلياً جديداً للكمبيوتر الكمّي المعروف بـ"Jiuzhang 3.0" من شأنه تسريع عمليات الحوسَبة بواقع 10 كوادريليونات ضعف.
فكيف تعمل تلك الأجهزة؟ في الحوسَبة التقليدية، يجري التعبير عن البِتات (Bits)، وهي الوحدات الأساسية للبيانات، إما بالأصفار (0) أو بالآحاد (1). أما أجهزة الكمبيوتر الكمّومية، فتستخدم البِتات الكمّومية أو "الكيوبِتات" (Qubits)، التي يتكوّن كلّ منها من صفرٍ وواحدٍ في آن. والحال أن استغلال خاصيّة التراكُب (Superposition) - المرتبطة بطبيعة الكيوبِتات لناحية التواجد المتزامن في حالات متعدّدة - يقع في صميم هذه القفزة الثورية في القدرات الحوسَبية.
إمكانية المعالجة السريعة لكمّيات هائلة من البيانات إنّما تتيح لأجهزة الكمبيوتر الكمّومية إدارة المهام فائقة الصعوبة مثل مسائل الأمثلية، وتحليل البيانات والمحاكاة. ويعتقد دانييل ليدار، الفيزيائي وأستاذ الهندسة في جامعة جنوب كاليفورنيا، أن آفاق الابتكار العلمي والتكنولوجي في مجال الحوسَبة الكمّومية لا تَعِد بإحراز تقدُّمٍ رائدٍ فحسب، بل ستمثّل أيضاً طفرة أوسع في عالَم تكنولوجيا الكمّ، بما في ذلك التشفير والاستشعار الكميّان. ويتعلّق الأمر هنا تحديداً بتفاعلٍ معقّدٍ، إلى جانب التراكُب، بين خاصيّتين إضافيّتين من خصائص ميكانيكا الكمّ: التداخُل (Interference) والتشابُك (Entanglement). فالتداخُل يتكفّل بمعالجة الكيوبِتات بحيث تتّحد حالاتها أثناء العمليات الحسابية تثبيتاً للإجابات الصحيحة وقمعاً لتلك الخاطئة. أما التشابُك، فيُنشئ علاقة كمّية فريدة بين الكيوبِتات، تفرض عدم إمكانية وصْف حالة إحداها بمعزل عن البقيّة.
على رأس التطبيقات العملية للحوسَبة الكمّومية ستحلّ صناعة الأدوية من حيث السماح لشركات الأدوية بمحاكاة خصائص الجزيّئات وسلوكها بشكل أكثر فعاليّة من الأجهزة الكلاسيكية. ناهيك بتسريع عمليّتَي المحاكاة والاستشعار الكميّين. فالأولى تتيح فرصاً للتقدُّم في مجالَي الكيمياء وعِلم المواد والمساعدة على إيجاد مواد ذات خصائص مبتكَرة. أما الثانية، فتسهّل قياس الخصائص الفيزيائية، كالطاقة الكهرو - مغناطيسية والجاذبية والضغط ودرجة الحرارة، بدقّة أعلى من الأدوات غير الكمّومية.
ومن المجالات المستهدَفة، هناك التعلّم الآلي، التشفير، الخدمات المالية، الرصد البيئي وتوقُّع الأحوال الجوية، الاستكشاف الجيولوجي والتصوير الطبّي. كما تُعَدّ مبادرات تطوير الإنترنت الكمّي - ربطاً للأجهزة ببعضها البعض باستخدام بروتوكولات التشفير الكمّي لبناء قنوات اتصال فائقة الأمان بِوَجه الهجمات السيبرانية الكلاسيكية والكمّومية - خطوة حاسمة نحو رأب الفجوات بين جناحَي عالَم الحوسَبة. وبالفعل، اختار المعهد الوطني (الأميركي) للمعايير والتكنولوجيا العام الماضي أربع خوارزميّات مقاوِمة للكمّ للتطوير والاستخدام في تكنولوجيّات التشفير مستقبَلاً.
بيد أن الثورة الموعودة لن تخلو من عقباتٍ ومخاطر. ونذكر: أوّلاً، معدّلات الخطأ المرتفعة بسبب حساسيّة الكيوبِتات المفرطة تجاه التفاعل مع الاضطرابات المحيطة - كتأثير الجسيّمات العابرة والصوت والحرارة - حيث يجب حفظ الأجهزة على درجات تلامس الصفر المطلَق (قرابة 273 درجة مئوية تحت الصفر). فالحساسية تلك تؤدّي إلى ظاهرة فكّ الترابط (Decoherence) والتحلُّل الفوري للبِتات الكمّومية إلى الحالة التقليدية، ما يفقدها هامش الأفضلية؛ وثانياً، احتمالات سوء الاستخدام ومحاولة المقرصِنين العبث بتشفير الأجهزة والبيانات. أما المعالَجات، فتشمل اللجوء إلى تقنيات كمّومية لتصحيح الأخطاء الناجمة عن فكّ الترابط (طرْح IBM بداية هذا الأسبوع للمعالِج الكمّومي "IBM Quantum Heron" خطوة إضافية في هذا الاتّجاه)؛ وتطوير برمجيّات وخوارزميّات تختلف جوهرياً بأدائها عن تلك المعتمَدة في الحوسَبة الكلاسيكية.
يجمع العلماء أن الحوسَبة الكمّومية – بما تمثّل من إعادة تشكيل ثورية لكيفيّة تعاملنا مع المشكلات المعقّدة – تمرّ بمنعطفات حاسمة. طبعاً، هناك من يتوجّس من دخولنا حقبة "الشتاء الكمّي" - أي مرحلة تراجُع الاستثمارات إن فشلت النتائج العملية في تحقيق اختراقات ذات جدوى اقتصادية قريباً. لكن ذلك لا يحدّ من تفاؤلٍ عارمٍ بمواصلة التكنولوجيا مسارها التطوّري لتُوظَّف على نطاق أوسع - أكثر فعاليّة وموثوقية وبكلفة مقبولة - في السنوات المقبلة.
وبانتظار نضوج نجاعة التقنيات وسلامة التطبيقات، يبرز مزيج من آمالٍ ومخاوفٍ عادةً ما تُرافق صعود التكنولوجيّات الناشئة. آمالٌ تبدأ بكبْح جماح التغيّر المناخي. ومخاوفٌ لا تنتهي بِرَفد الصعود المتفلّت للذكاء الاصطناعي التوليدي بقوّة دفْعٍ إضافية. وهو مزيجٌ يظهر حاجتنا، أفراداً وكياناتٍ، لخريطة طريق متماسِكة استعداداً لـ"عصر كمّي" آتٍ.