تشير دراسة لـ "كليّة سليمان العليان لإدارة الأعمال في الجامعة الاميركية في بيروت"، إلى أنّ الأسعار بالدولار ما زالت أقلّ ممّا كانت عليه قبل الانهيار؛ ولو بنسب طفيفة...

"رجع الدولار إلى 1500 ليرة"، عبارة تتردّد كثيراً على "ألسنة العامّة" للدلالة على عودة القوّة الشرائية للمداخيل بالدولار إلى ما كانت عليه قبل الانهيار. فالمئة دولار التي كانت تشتري 27 صفيحة بنزين في تموز 2021، لم تعد تكفي لشراء 5 صفائح في يومنا الراهن؛ تماماً كما كان عليه الحال في العام 2019. وما ينطبق على المحروقات ينسحب على الدواء والغذاء والطبابة والاستشفاء.. وغيرها الكثير من ميادين الحياة. إلّا أنّه على "ألسنة الخاصّة" نسمع أنّ أسعار السلع بالدولار ما زالت أرخص ممّا كانت عليه قبل الانهيار. وذلك على الرّغم من إلغاء كلّ اشكال الدّعم المباشر وغير المباشر.

في الوقت الذي تحوّلت فيه الأرقام في لبنان إلى وجهة نظر، تشير دراسة لـ "كليّة سليمان العليان لإدارة الأعمال في الجامعة الاميركية في بيروت"، إلى أنّ الأسعار بالدولار ما زالت أقلّ ممّا كانت عليه قبل الانهيار؛ ولو بنسب طفيفة. الدراسة التي أجريت حديثاً بالتعاون مع الدكتور فؤاد زبليط عن الفترة الممتدّة بين العامين 2012 و2023 شملت مجموعة متنوّعة من السلع الاستهلاكية الأساسية التي تدخل في السلّة الغذائية للمواطنين. وقد بيّنت النتائج أنّه باستثناء زيت دوار الشمس ومعجون الطماطم، فإنّ أسعار بقيّة السّلع من الحليب واللحوم والحبوب والخبز والسكّر والأسماك والخضار والفواكه... ما زالت بالمتوسّط أقلّ ممّا كانت عليه قبل الأزمة كما يظهر الشكل المرافق أدناه. وعلى الرّغم من رفع الدعم بشكل كلّي فإنّ أسعار بعض السلع المقوّمة بالدولار تقلّ اليوم بنحو 20 في المئة عمّا كانت عليه قبل الأزمة. وهذا الأمر يعود بحسب المستشار المالي المشارك في الدراسة الدكتور غسان شماس إلى "تراجع كلفة القيم المضافة على الأسعار عمّا كانت عليه قبل الانهيار". وهذا يشمل على سبيل الذكر لا الحصر اليد العاملة النّقل الضرائب والرسوم الإيجارات، وهي قيم لم تتغيّر لغاية اللحظة بنفس نسبة تغيّر سعر الصرف في السوق الموازية.


تفاوت في الأسعار بين المحافظات والمدن

استمرار التراجع الملحوظ بأسعار العديد من السّلع المقوّمة بالدولار، بحسب ما أظهرته الدراسة، قابله تفاوت صارخ في الأسعار بين المحافظات والمدن اللبنانية، وصل في بعض الاحيان إلى 17 و18 في المئة. وبحسب الدراسة حلّت النبطية كأغلى المحافظات، وعكار أرخصها. انظر الخريطة أدناه. فيما سجّلت كلّ من محافظتي بيروت والشمال سعراً وسطياً.

أمّا على صعيد المدن فقد حلّت كلّ من جزين ومرجعيون على رأس قائمة المدن اللبنانية لناحية ارتفاع أسعار السلع، فيما حافظت كلٌ من مدينة حلبا الشمالية وبعلبك البقاعية على المعدّل الأدنى. انظر الرسم أدناه.

كلفة النقل عامل أساسي بارتفاع الأسعار وتفاوتها بين المناطق

هذا التفاوت في الأسعار بين المناطق يشكّل بحسب الدراسة مكمن خطر أساسي على الواقع الاقتصادي والاجتماعي للأسر. إذ "بغضّ النظر عن نصيب الفرد من النّاتج المحلّي الإجمالي، فمن الضروري أن نفهم أنّه عندما تختلف أسعار السلع الأساسية، فإنّ إحدى فئات المجتمع اللبناني تشعر بتأثيرها أقوى بكثير من الآخرين، وتحديداً أولئك الذين يعيشون تحت خطّ الفقر. ويعود هذا التباين الكبير في الأسعار الذي يواجه المستهلكين خلال الفترة الزمنية نفسها بين مختلف مناطق لبنان، إلى مجموعة من العوامل الأساسية، أهمّها:

- افتقار لبنان إلى العدد الكافي من الكوادر المعنيّة بضبط الأسعار في وزارة الاقتصاد والتجارة.

- النقص في أعداد خبراء الأمن الغذائي المحلّيين المتخصّصين.

- الافتقار إلى البرامج الزراعية المتكاملة لسدّ حاجات الأسواق بالسّلع التي يقلّ عرضها.

- عدم وجود طرق نقل وطنية رخيصة للمنتجات، على غرار السكك الحديدية. وقد تتجاوز تكلفة النقل 30 في المئة من التكلفة النهائية للسلعة.

استمرار التراجع الملحوظ بأسعار العديد من السّلع المقوّمة بالدولار، بحسب ما أظهرته الدراسة، قابله تفاوت صارخ في الأسعار بين المحافظات والمدن اللبنانية

الضغوط على أصحاب الرواتب بالليرة

في الوقت الذي تفترض فيه الدراسة عدم شعور من يتقاضى راتبه بالدولار بحدّة التضخّم، يتبيّن مقدار الظلم والمعاناة الكبيرين اللذين يلحقان بكلّ من يتقاضى راتبه، أو الجزء الأكبر منه بالليرة اللبنانية. حيث إنّ معدّل التضخّم منذ بداية الأزمة تجاوز 2500 في المئة بالنّسبة للكثير من السلع والخدمات. ويمكن تقسيم الفترة الزمنية للدراسة إلى ثلاثة مراحل رئيسية:

- المرحلة الأولى من العام 2012 إلى تشرين الأول 2019 أي فترة ما قبل الأزمة.

- المرحلة الثانية من تشرين الأول 2019 حتّى نهاية 2021، وهي مرحلة الدعم على المحروقات والسلع الغذائية والأدوية.

- المرحلة الثالثة من بداية العام 2022 حتّى الآن، وهي مرحلة رفع الدعم وتعويم مختلف الأسعار.  

 من الملاحظ أنّه في المرحلتين الثانية والثالثة فرضت الأزمة المصرفية قيدين على مسألة الأمن الغذائي: تمثّل الأول بالتقلّب الشديد في سعر الصرف مقابل سعر رسمي منخفض ثابت قدره 1500 ليرة لبنانية للدولار. والثاني بمعدل تضخّم متصاعد. فخلال أول عامين من الأزمة، انتهجت الحكومة سياسة الدعم على الوقود ومشتقّاته والقمح والخبز وبعض السلع الأخرى. ومن بعد رفع الدعم تأرجحت الأسعار لفترة قصيرة من الزمن، دون أيّ عقلانية، ثم استقرّت لاحقاً بسبب الدولرة السريعة لسوق التجزئة: أصبحت الليرة اللبنانية غير مستعملة، وحلّ محلّها الدولار الأميركي كوسيلة نقدية لمعاملات التجزئة. وتجدر الإشارة إلى أنّ رواتب القطاع العام لا تزال مرتبطة بسعر صرف الليرة اللبنانية "القديم". وبالتّالي فإنّ الموظّف العام هو في الواقع أكثر من يعاني من تأثير تقلّب الأسعار في لبنان. الضغط الواضح على جيوب المواطنين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية وتحديدا فئة موظفي القطاع العام يجب أن "يقابل بالتفكير جديّاً بتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي الشاملة المنتظرة منذ سنوات"، برأي شماس خصوصاً لذوي الدّخل الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، والذين كانوا يعرفون سابقاً بأصحاب الدخل المحدود.

على الرّغم من إظهار الدراسة بالأرقام أنّ أسعار السّلع بالدولار تقلّ اليوم عمّا كانت عليه قبل الانهيار، إلّا أنّ نسبة الاختلاف أصبحت واهية، وهي تتعادل في الكثير من السلع، منها السكّر على سبيل المثال. وفي حال تم إقرار موازنة 2024 مع ما تحمله من زيادة في الضرائب والرسوم من جهة وتعديل سعر صرفها ليتناسب مع سعر الصرف في السوق الموازية من الجهة الثانية، فإنّ أسعار السلع بالدولار سترتفع حكماً عمّا كانت عليه قبل الانهيار. وستفقد حكماً المداخيل بالدولار قوّتها الشرائية.