بما هي مجموعة تغيّرات جسدية، عقلية وسلوكية، تطال إيقاعات الساعات الداخلية البيولوجية بتأثيراتها المتنوّعة مختلف الكائنات الحيّة. فَمِن البشر والحيوانات إلى النباتات والميكروبات، هي تتمحور أساساً حول استجابة التغيّرات الطبيعية تلك لتَعاقُب الليل والنهار. والأهم أنّها - أي التغيّرات - ترخي بظلالها على مفاصل مختلفة من حياة البشر: من تنظيم أوقات الاستيقاظ والنوم، إلى التسبّب بالأرق واضطراب الرحلات الجوية الطويلة، فبلورة الأداء الفيزيولوجي والفكري والتفاعل مع المحيط.
دراسات كثيرة تناولت، ولا تزال، عالَم الساعة الداخلية للجسم. سيندي ماي، أستاذة علم النفس في كليّة شارلستون، مثلاً، عملت على استنباط ما إذا كان للنمط الزمني الخاص بالفرد (Chronotype) تأثيرٌ على أدائه العقلي. فالبشر يقدّمون أداءً أعلى في العديد من المهام العقلية الشائكة تزامناً مع ذروة إيقاعهم اليومي الشخصي، في ما يُعرف بتأثير التزامن (Synchrony Effect). وتشمل المهام تلك التركيز والتعلّم وحلّ المشكلات واتّخاذ القرارات كما مختلف الوظائف المعرفية.
بين الدراسات، ثمّة ما تناول الأداء الصباحي والمسائي لفئة المستيقظين باكراً (عصافير الصباح) وأصحاب السلوك اليومي الساهر (بومات الليل). وتشير ماي إلى إحدى تلك الدراسات حيث جرى انتقاء أكثر من 700 مراهق عشوائياً، وإخضاعهم لامتحانات في الصباح الباكر أو في وقت متأخّر من الصباح أو بعد الظهر. النتيجة كانت تسجيل عصافير الصباح درجات أعلى مقارَنةً ببومات الليل في الجلستين الصباحيّتين، لتنعكس الآية مساءً.
ماي تلفت إلى أنّ ذوي الأنماط الزمنية المتماسِكة عادةً ما يكونون في أوقات الذروة - مقارَنةً بالأوقات التي تقع خارجها - أكثر يقظة، تنبّهاً وقدرة على الحفاظ على التركيز، كما أقلّ عرضة للتحيّز والتشتّت الذهنيّ. أما توقيت إجراء تقييمات الاضطرابات المعرفية، مثل اضطراب نقص الانتباه ومرض ألزهايمر، فذات أثرٍ بالغٍ هو الآخر. إذ بينما يتحسّن الأداء، بحسب الاختبارات، في أوقات الذروة في العديد من التقييمات النفسية والعصبية، ينعكس عدم مراعاة التزامن سلباً على دقّة التشخيصات ونجاعة التجارب السريرية والعلاجات.
في مكان آخر، طوّر باحثون من جامعة نورث وسترن نموذجاً رياضياً، عبر محاكاة حاسوبية، لفهمٍ أفضل لعمل الساعة الداخلية. فالدماغ، كموطن الساعة البيولوجية المركزية للجسم، محاطٌ بساعات طرفية - ومركزها الأعضاء كالبنكرياس والكبد والكتلتين العضلية والدهنية - تحافظ على معظم أنظمة الجسم وفقاً لجدول زمني واضح المعالم. ويأتي دور الساعة المركزية، التي تقع في نواة سوبراشياسماتيك بالدماغ، ضبطاً لإيقاع الساعات الأخرى.
وفقاً للدراسة الحديثة التي نُشرت في مجلة Chaos، من شأن الإشارات المتضاربة، مثل حلول طقس دافئ خلال فترة ضوئية قصيرة ما أو تناوُل الطعام حين يكون الدماغ على وشك الخلود للراحة ليلاً، أن تُربك الساعة الداخلية للجسم متسبّبة بفقدان الساعات البيولوجية للأعضاء لتزامنها. وكمثال، يحدث اضطراب الرحلات الجوية الطويلة، عند تضارُب الساعة الداخلية مع النهار والليل نتيجة موقع الفرد على الأرض بالنسبة للشمس.
النموذج المطوَّر كناية عن مجموعتين من المذبذبات المزدوجة التي تحاكي الإيقاعات الطبيعية لدورات الساعة الداخلية. وحيث يؤثّر كلّ مذبذب على المذبذبات الأخرى، يجري بالتزامن ضبط كلّ منها بناءً على إشارات خارجية محدّدة. وقد أظهر الفريق إمكانية تعطيل النظام المزدوج، تحقيقاً لتأثيرٍ أسوأ في بعض الحالات أو لزيادة مرونة الساعة الداخلية في حالات أخرى.
ووجد البحث أنّ الأعراض الشائعة للشيخوخة، كضعف تبادُل الإشارات بين الساعات البيولوجية وانخفاض الحساسية تجاه الضوء، إنما تولّد نظاماً أكثر عرضة للاضطرابات وأكثر تباطؤاً في التعافي. كما بيّن طريقة محتملة لتسريع تجاوُز اضطراب الرحلات الجوية الطويلة: تناوُل وجبة ثقيلة في الصباح الباكر بتوقيت المنطقة الزمنية للوجهة.
نتعمّق أكثر مع بحث لفريق من جامعة كورنيل، نُشر في مجلة Nature في نيسان الماضي، لشرْح الآليات البروتينية الكامنة خلف إيقاعات الساعات الداخلية. الباحثون استخدموا تقنيات المجهر الإلكتروني المبرّد المبتكرة (Cryo-Electron Microscopy) لتحديد بنية المستشعِر الضوئي لتلك الإيقاعات وهدفه في ذبابة الفاكهة. الأخيرة هي إحدى الكائنات الحيّة المستخدَمة للغرض، والهدف هو مراقبة بروتين TIMالمعقَّد والغامض في آن.
وركّز البحث على كريبتوكرومات ذبابة الفاكهة، بصفتها المكوّنات الرئيسة للساعات الداخلية للنباتات والحيوانات والبشر. فالكريبتوكروم، الذي يُنشَّط بواسطة الضوء الأزرق (وهو جزء من طيف الضوء المرئي) يعمل كجهاز استشعار الضوء الأساسي لتحديد إيقاعات الساعات الداخلية.
كشف الباحثون أن بروتين TIM يتعاون مع بروتين بيريود (PER) لتثبيط الجينات المسؤولة عن إنتاجهما. ومع تمرير مدّة زمنية مناسِبة بين حدثَي التعبير الجيني وقمعه، ينشأ تذبذب يشبه دقّات الساعة في مستويات البروتين. هذا في حين يغيّر الضوء الأزرق كيمياء وبنية أحد العوامل المساعدة للكريبتوكروم (الفلافين)، والذي يسمح له بالتشبيك مع بروتين TIM لاجماً قدرته على قمع التعبير الجيني، وبالتالي إعادة ضبط التذبذب.
الدراسة قدّمت تفسيراً للتباين الجيني لدى الذباب الذي يتيح له التكيّف مع خطوط عرضٍ أعلى، حيث الأيام أقصر شتاءً والجو أكثر برودة. ونتيجة تشبيك الكريبتوكروم مع البروتين TIM، توصّل الباحثون إلى أن التباين يحدّ من تقارُب الاثنين. ويلي ذلك تعديل التفاعل بين البروتينات وتغيير قدرة الضوء على إعادة ضبط التذبذب - أي تعديل ضبط الساعة الداخلية وتمديد فترة سبات الذبابة، ما يساعدها على البقاء حيّة في الشتاء.
يقول الفريق إن بعض التفاعلات الملحوظة في ذباب الفاكهة يمكن ربطها بالبروتينات البشرية لناحية فهْم التفاعلات الرئيسة بين المكوّنات الناظمة لسلوك نومنا. بينما تسلّط نتائج دراسة جامعة نورث وسترن الضوء على أهمية الساعات الطرفية في إيضاح التفاعل المعقَّد بين بلوغ مرحلة الشيخوخة ومرونة الساعة الداخلية للجسم. وهذا، بالمحصّلة، يشرّع الباب أمام تطوير علاجات لعدّة اضطرابات متّصلة مستقبَلاً.