يعتبر استخدام الطائرات العسكرية بدون طيار جزءا أساسياَ من الحرب الحديثة
بخلاف ما كانت عليه الحال قبل عشرات السنين، أصبحت فاعلية سلاح الجو وقدراته على درجة عالية من الدقّة والتطوّر بفضل عوامل عدة ونتيجة دروس مستقاة على ما يقول بعض الخبراء.
نتيجة التطور التكنولوجي الهائل ظنّ العالم أنّ تلك المجازر التي وقعت بحقّ المدنيين خاصة خلال الحرب العالمية الثانية لن تتكرّر، حيث قتلت الغارات الجوية التي جرت بين دول المحور والحلفاء أعداداً كبيرة من المدنيين الأبرياء. كما ساد الاعتقاد أنّ مقولة قائد القوّات الجوية للجيش الأميركي عن أنّ الحرب "يجب أن تكون مدمّرة، وإلى حدٍ ما غير إنسانية ولا ترحم"، قد أصبحت من الماضي.
قيل أنّ ما حصل في اليابان عندما دمّرت الولايات المتحدة 67 مدينة، ممّا أسفر عن مقتل أكثر من 600 ألف مدني، وترك 8.5 مليون بلا مأوى مسألة لا يمكن تصور حصولها، خصوصاً أنّ أعداد الضحايا وحجم الدمار تسبّب بقلق وزير الحرب آنذاك هنري ستيمسون من أن الولايات المتحدة ستحصل على سمعة تفوق سمعة هتلر بالفظائع. ومع ذلك، وقّع ستيمسون نفسه على ضربة ذرية على مدينة هيروشيما أسفرت عن مقتل 140 ألف شخص من المدنيين، وأخرى على ناغازاكي أسفرت عن مقتل 70 ألف شخص، ولم تعوّض الولايات المتّحدة على أسر هؤلاء الضحايا أو الناجين من تلك الهجمات.
وفي الحرب على كوريا بعد فترة وجيزة، أعلن الجنرال دوغلاس ماك آرثر أنّه سيتمّ تدمير كل مدينة وقرية في الشمال، وتفاخر بعدها الجنرال في سلاح الجو كورتيس ليماي بأنّ الولايات المتحدة "قتلت أكثر من مليون كوري مدني."
في كمبوديا، بين عامي 1969 و1973، قتلت الهجمات الأميركية ما يصل إلى 150.000 مدني، كما قصفت الولايات المتحدة لاوس الصغيرة التي كانت مسرحاً للمتحاربين خلال حرب فيتنام بأكثر من 2 مليون طن من الذخائر.
هذه الأعداد من الضحايا دفعت العديد من صانعي الأسلحة والدول إلى البحث عن وسائل أنجع للقضاء على الأعداء مع محاولة تجنّب وقوع أضرار جانبية، والتي يُقصد بها امكانية تجنب قتل أو اصابة المدنيين في مناطق النزاع، ولطالما بدا أنّ سلاح الجو هو الأكثر قدرة على تحقيق هذا الهدف، أكّدت تجارب عدة سابقة صعوبة تحقيق هذا الأمر لحصول إخفاقات كثيرة في قصف مدنيين عزّل أغلبهم من النساء والأطفال، تكرّرت خلال غارات بطائرات بدون طيّار في العديد من البلدان.
وما اقترفته الدول المتنازعة خلال الحرب العالمية الثانية من قصف نتج عنه قتل الكثير من الأبرياء، بدا الآن ان التاريخ يعيد نفسه، لنرى ما ارتكبته اسرائيل اليوم وما زالت ترتكبه من قصف جوي وحشي أسفر حتّى اللحظة عن سقوط أكثر من 11 ألف مدني فلسطيني غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ. كما لم يفرّق القصف بين أهداف عسكرية ومناطق سكنية أو مستشفيات وحتّى صحافيين، وأنّ حجم ما ألقي حتى الآن على غزة من الجو يفوق بأضعاف القنبلة الذرية.
تطوّر أدوات القتل
خلال السّنوات العشرين الأولى من "الحرب على الإرهاب"، نفّذت الولايات المتحدة وحلفائها أكثر من 91 ألف غارة جوية على سبع مناطق صراع رئيسية، أفغانستان والعراق وليبيا وباكستان والصومال وسوريا واليمن، ونتج عن ذلك مقتل ما يزيد عن 48 ألف مدني وفقا لتحليل أجرته Airwars عام 2021، وهي مجموعة مراقبة غارات جوية مقرّها المملكة المتحدة.
ومن الجدير لفت النظر إليه إلى أن بعض تلك الغارات الأخيرة كان يتم تنفيذها من خلال الطائرات من دون طيار. ويعود تاريخ استخدام هذا النوع من الأسلحة إلى العام 1917 مع الهدف الجوي (AERIAL TARGET) بحسب موقع المتحف الملكي للحرب، والذي يشير إلى أن أول اختبار أميركي في هذا المجال كان في العام 1918 مع ملكة النحل (The Queen Bee) وأعقبتها التجربة الأميركية في العام 1946، والتي تمكنت من التحليق لمسافة 2600 ميل، لتكر بعدها السبحة لنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم.
هذا ويعتبر استخدام الطائرات العسكرية بدون طيار جزءا أساسياَ من الحرب الحديثة كحرب روسيا على أوكرانيا مثلاَ، والتي شكّلت علامة فارقة جديدة في حرب الطائرات بدون طيار (المسيّرات). حيث تم استخدام المسيّرات التي أعيدت هندستها لتصبح أداة فعالة في هجمات لمواقع مستهدفة واسعة النطاق لأول مرة.
حماس والمسيّرات
ويقول خبراء عسكريون إنّ مقاتلي حماس استخدموا هذه الأنواع من الطائرات بدون طيار في 7 تشرين الأول لتسهيل هجماتهم على أهداف للجيش الإسرائيلي، إذ نشرت حماس طائرات بدون طيار تجارية رباعية المروحيات تلقي عبوات ناسفة عطّلت أو "أعمت" أبراج المراقبة على طول السياج الحدودي الإسرائيلي مع غزة بالكامل، والتي كانت تعتبر غير قابلة للاختراق.
لفهم هذه الهجمات بشكل كامل، من المفيد العودة إلى تجربة الحرب الروسية - الأوكرانية، حيث اعتمدت روسيا على مسيّرات إيرانية الصنع بأغلبها تحمل عبوات ناسفة ضد الجنود والآليات العسكرية، وهذا تكتيك يستخدمه كلا الطرفان حالياً، ويبدو أنّ حماس استنسخت تلك الأساليب المستخدمة بين روسيا وأوكرانيا واستخدمت مسيرات أقل حداثة وتقنية لنفس الأهداف.
وكانت حركة حماس قد أعلنت في العام 2020 عن إطلاق مسيّرات "شهاب" التي صنعتها كتائب القسام - الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية، وهي صغيرة الحجم وشبيهة بطائرات "أبابيل"، ولكنها تختلف في بعض خصائصها ولا يمكن استخدامها لأهداف بعيدة. لها ميزات تجعلها أقدر على إصابة الأهداف من صواريخ المقاومة، وكان أول استخدام لها في معركة سيف القدس.
في بيان لها، أكّدت حماس استخدام 35 طائرة مسيرة من طراز "الزواري" في هجمات 7 تشرين الأول. وقد سمّيت هذه المسيّرات التي تصنعها حماس تيمناً بالرئيس السابق لبرنامج المسيّرات في الحركة، المهندس التونسي محمد الزواري الذي اغتاله الموساد في العام 2016.
المسيّرات المدنية لأغراض عسكرية
المسيّرات الاستهلاكية بدون طيار رخيصة الثمن ومتوافرة في الأسواق المحلية (يمكن شراء مسيّرة صغيرة مقابل 400 دولار أميركي)، ويمكن إطلاقها من أي مكان خلال ثوان ووضعها على مسار دقيق. وكانت الولايات المتحدة قد أدرجت إحدى أكبر الشركات الصينية المصنّعة للطائرات من دون طيار على لائحة العقوبات بعدما قيل أنّ موسكو استخدمتها في الحرب الأوكرانية. ويأتي هذا ا لتطوّر بعد أن قامت وزارة الداخلية الأميركية بحظر استخدام الطيارات من دون طيار الصينية الصنع بعد مخاوف من القدرة على اختراقها.
وفيما تعمل هذه الطائرات على موجات تواصل أقصر من تلك العسكرية إلا أن مدى التحكّم بها عن بعد يعتبر ملائماً في مناطق المعارك. ونظراً لسعرها الذي يعدّ متواضعاً قياساً بتلك العسكرية إضافة إلى صغر حجمها ما يصعّب مهمة استهدافها عملت التنظيمات المسلحة إلى استخدامها في أرض المعركة، من خلال استخدامها لتصوير ورصد تحركات العدو أو تجهيزها بالمتفجرات أو تعديلها بشكل تتحول فيه إلى سلاح بشكل أو بآخر.
وتستخدم هذه الطائرات المسيرّة أنظمة الملاحة الجوية مثل (GPS) في عملها عن طريق الأقمار الصناعية التي توفّر المعلومات عن الأهداف (الموقع والوقت) في جميع الأحوال الجوية في أي مكان على الأرض أو بالقرب منها. أما التحكم فيجري عن طريق شبكة لاسلكية (WiFi).
وتعتمد هذه الطائرات على جهاز استشعار المسافة بالموجات فوق الصوتية لتجنّب العقبات في الهواء أثناء الطيران، وهو يتميز بأنه ذاتي التحكم يعمل بكود برمجي قوي وقابل للتطوير. وتتأثر هذه الطائرات بحالة الطقس والظروف المناخية إلى حدٍّ بعيد.
ويمكن التحكم بهذه الطائرة من خلال جهاز التحكم أو بالهاتف الذكي لاسلكيًّا، وبذلك يمكن التحكم فيها بإرسال الإشارات والأوامر وباستقبال الصور المتحركة التي تُنقل مباشرة من الطائرة إلى شاشة العرض المتصلة بجهاز التحكم، وذلك لمعرفة موقع الطائرة ورؤية العوائق (لأنها تطير بعيدًا عن مجال الرؤية) وللبدء في تسجيل الفيديو في اللحظة المناسبة.
غير أن المشكلة تكمن في أن الاتصال بالطائرة عن طريق إشارات WIFI يسمح لها بالتحليق لمسافة تصل إلى 4 كيلومترات فقط، ثم تفقد استقبال الإشارات. أمّا المسيرات العسكرية فتتميّز بأنها تستطيع التحليق لمئات الكيلومترات من خلال التحكم بها بواسطة الأقمار الاصطناعية التي تضمن استدامة الاتصال اللاسلكي معها.
ما هي أنواع المسيّرات العسكرية؟
تفيد دراسة لمركز أبحاث الطائرات المسيّرة الأميركي بأنّ أكبر الدول المنتجة والمصدّرة لهذا النوع من الطائرات هي الولايات المتحدة وإسرائيل والصّين، والتي تبعد بفارق كبير عن باقي الدول المصدّرة الأخرى، مثل أستراليا والدانمارك وفرنسا وإيران وروسيا وتركيا وغيرها، إضافة للمسيّرات الصغيرة الأخرى التي يتم تصنيعها محلّياً في مناطق الصراعات والتي تعتمد عليها الوحدات المقاتلة وحركات المقاومة.
نجاح المسيّرات في العمليات المختلفة يجعل من هذه المسيرات سلاحاً اساسياً غير مكلفاً. فبصرف النّظر عن كونها أصبحت جزءاً مهمّا في منظومات أسلحة الجيوش، هناك عدة أنواع مختلفة من الطائرات بدون طيار المستخدمة في جميع أنحاء العالم:
- المسيّرة ثابتة الجناحين، وهي مسيّرة ذات أجنحة ثابتة، تعتبر أسرع مسيّرة عسكرية منتشرة حالياً في جميع أنحاء العالم. تمّ تصميم هذه المسيّرة للإقلاع والهبوط مثل الطائرات باستخدام الأجنحة بدلاً من الدوارات للرفع، منها ما يستخدم للرصد والتجسس فقط على ارتفاعات عالية، ومنها ما هو مجهز بأسلحة وذخائر.
- مسيّرة الدوار الواحد، تبدو المسيّرات الأحادية الدوار مشابهة لطائرات الهليكوبتر وهي أكثر متانة من المسيّرات الأخرى، إلّا أنها تتطلب الكثير من الصيانة. تجدر الإشارة إلى أنّ بعض هذه الطائرات بحجم الإبهام.
- المسيّرات المتعددة المراوح، هي الخيار الأكثر مباشرة الذي يوفّر أفضل تحكّم في تحديد المواقع ولهذا، فهي الخيار الأفضل للمراقبة والاستطلاع.
ختاماً، بات من الواضح وخاصة خلال السنوات الأخيرة، ان سلاح المسيرات أصبح السلاح الأكثر استخداماً في ميادين الحروب، كما أصبح يعتبر العين الحاضرة والكاشفة لكل مقاتل، وان هذا السلاح المسيّر عن بعد أصبح جزء أساس من إدارة المعركة، ولاحقاً سيتربع حكماً على عرش سلاح الجو.