إن كان وعيُنا أحد أعمدة الكون حقّاً، فهذا مدعاةٌ إضافيةٌ لإعادة تشكيل نظرتنا للعالَم، وتعريف دورنا في تشكيل معالمه من زاوية فهْمنا لأنفسنا ولأثر وعيِنا عليه
مقاربة المسائل العلمية نظرياً شائكةٌ وتغلب عليها سمات المادّة الجافّة. فالتوصيفات النظرية تعوزها، في أغلب الأحيان، آليات التطبيق العملي الأكثر إقناعاً. الوعي البشري هو أحد تلك المسائل، إن لم يكن أحد أبرزها. والتعقيد هنا يتكثّف فوق العادة لما للأخير من امتدادات، وانعكاسات، فردية وجماعية.
بالجانب الفردي نبدأ. فثمة أدلّة حديثة تشير إلى تبلوُر التجارب الواعية لدى الإنسان في مراحل الحمل الأخيرة. الدراسة التي أجراها فريق علماء من أستراليا وألمانيا والولايات المتحدة وإيرلندا، أوردتها مجلة Trends in Cognitive Sciences الشهر الماضي، لافتة إلى قدرة أدمغة الرضّع على تكوين تجارب واعية تشكّل فهمهم الناشئ للذات والمحيط.
لجأ الباحثون إلى ثلاثة عناوين في معرض مراقبة التفاعلات الدماغية لدى الرضّع: أولاً، تحديد علامات الوعي ومؤشّرات الاهتمام من خلال تقنيات مسح أدمغة أفراد بالغِين وتطبيق النتائج تقييماً لوعي حديثِي الولادة؛ ثانياً، التكامل الحسّي للمعلومات، حيث بدا أن هؤلاء قادرون على دمج الاستجابات الحسّية والمعرفية الناشئة في تجارب واعية متماسكة؛ وثالثاً، مراقبة قدراتهم الإدراكية وإعادة توجيه تركيزهم، إذ إنّ إدراكهم لعددٍ أقلّ من العناصر واستغراقهم وقتاً أطول لإدراك المحيط مقارنة بالبالغين، لا يمنعهم من معالجة مروحة واسعة من المعلومات.
النتائج تشي بنشوء حالة مبكرة من الوعي قبل الولادة بوقت غير قليل. وهذا يعني، بحسب الفريق، عدم تفعُّل الوعي فجأة لدى الرضّع. بل قد نكون بإزاء تراكُمٍ تدريجي للخبرات التي تتطوّر مع اندماج المشابك العصبية، تمازُج الحواس وارتفاع منسوب الإدراك.
لِنَقُلْ إن الوعي عبارة عن سلسلة متّصلة ليست الولادة سوى إحدى قفزاتها النوعية، ولنَعُد بضع سنوات إلى الوراء. ففي دراسة نُشرت سنة 2016 في مجلّة Physical Review E، طرح فريق باحثين من جامعتَي باريس - ديكارت وتورنتو احتمال كون أدمغتنا مبرمجة لتحقيق أقصى قدر من الفوضى أسوة بمبدأ الإنتروبيا. والمصطلح الأخير يُستخدم لتوصيف جنوح نظام ما من حالة انتظامٍ إلى حالة أقلّ انتظاماً. أما وعيُنا، فقد لا يكون سوى أحد الآثار الجانبية لذلك.
الاحتمال الذي طرحه الفريق استدعى السؤال: ماذا لو ينشأ وعيُنا طبيعيّاً نتيجة قيام أدمغتنا بتعظيم محتوى معلوماتها، كأحد انعكاسات تطوُّرها باتّجاه حالة ما من الإنتروبيا؟ علماً أن الأخيرة، باعتقاد الفيزيائيين، هي حال كوننا منذ الانفجار الكبير. وذلك تماشياً مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي يعتبر أن إنتروبيا نظام ما تميل حُكماً إلى التعاظم مع مرور الوقت.
حاولت الدراسة تطبيق المبدأ نفسه على الأدمغة، والتحقّق من ظهور أنماط معيّنة في الطريقة التي تنظّم الأخيرة عملها في حالة الوعي. واستخدم الفريق إحدى نظريات الاحتمالات المعروفة بالميكانيكا الإحصائية لنمذجة شبكات الخلايا العصبية في أدمغة تسعة أشخاص، سبعة منهم مصابون بالصّرع. ثم تمّت مراقبة مجموعتَي بيانات: الأولى قارنت أنماط الاتّصال في حالات نوم أو استيقاظ المشاركين؛ والثانية حدّدت الفروقات بين حالتَي تعرُّض مرضى الصّرع لنوبات، وكون أدمغتهم في حالة يقظة طبيعية.
برز في الحالتين الاتّجاه عينه. فقد أظهرت أدمغة المشاركين علامات إنتروبيّة في حالات اليقظة الكاملة، تمثّلت بأكبر عدد من التكوينات الممكنة للتفاعلات بين شبكاتها. وهذا دفع بالفريق إلى القول بإمكانية كون الوعي نتيجةً للمعالجة القصوى للمعلومات. طبعاً، حجم العيّنة لم يسمح بتعميم النتائج، لكنها شكّلت نقطة انطلاق للتعمّق في فرضية جديدة حول سبب مَيل أدمغتنا لأن تكون واعية، انطلاقاً من ارتباطنا بالقوانين التي تحكم الكون.
وهذا يحيلنا إلى نقطة مركزية على مستوى الأثر الجماعي للوعي، تفسيراً للعلاقة الجدلية بين العقل الواعي والمادة. ونعني بذلك انعكاس تماسُك العقول، لدى تركُّز الانتباه الجماعي على فكرة/حدث ما، تماسُكاً أشدّ في مختلف جوانب العالَم المادي.
أضاء مشروع الوعي العالمي (Global Consciousness Project) سنة 1998 على هذه المسألة تحديداً. وكان النظام المستخدَم حينها كناية عن شبكة عالمية مترابطة من مولّدات الأرقام العشوائية الإلكترونية (Random Numbers Generators) اعتماداً على التأثيرات الكمّية. في حين حلّلت إحدى الدراسات بيانات مخرجات تلك المولّدات المجمَّعة عن 500 حدث عالمي استثنائي – مخطّطٍ لها مسبقاً وفجائية - بين عامي 1998 و2015.
بيّنت النتائج وجود رابط بين التركيز البشري الجماعي على تلك الأحداث والمخرجات المجمَّعة. صحيح أن العيّنة هنا أيضاً لم تشمل سوى 5% من إجمالي البيانات الواردة للفترة موضوع الدراسة، لكن دراسات لاحقة أكّدت علاقة مماثلة بين المخرجات ومقاييس أكثر "عادية" مثل الأخبار اليومية ومؤشّرات سوق الأسهم العالمية. وفي دراسة متّصلة قبل أشهر، ميّز فريق المشروع بين أمرين: ارتباط أنماط المخرجات غير العادية المجمَّعة بالأحداث العالمية الهامّة حصراً؛ أو وجود اتصالٍ خفيّ متواصلٍ بين أفكارنا والعالَم من حولنا، مدفوعاً بالتركيز الجماعي والاهتمامات والعواطف لدى مجموعات مختلفة من البشر.
الروابط بدت راسخة. وتجلّت بوضوح أدقّ لدى تناوُل فترات تركيز زمنية تتراوح بين 8 و15 دقيقة، توافقاً مع مدة تركُّز الانتباه لدى البشر. ومعنى ذلك أن التركيز الجماعي المتبلور خلال تطوُّر الأحداث اليومية ذات تأثير خفيّ فعلاً على الأنظمة الفيزيائية. أمّا التأثير العضوي ذاك، فيدفع للتساؤل عن إمكانية تشابُك الوعي الجماعي في نسيج الكون من ضمن التفاعل المؤثّر بين العقل – ومحرّكه الوعي - والمادة.
وهنا بيت القصيد: إن كان وعيُنا أحد أعمدة الكون حقّاً، فهذا مدعاةٌ إضافيةٌ لإعادة تشكيل نظرتنا للعالَم، وتعريف دورنا في تشكيل معالمه من زاوية فهْمنا لأنفسنا ولأثر وعيِنا عليه. دراسات مشروع الوعي العالمي ستتواصل، لكننا في سباق مع الزمن. كيف لا وجلّ ما تنتجه نظرتنا الحالية إلى الآخَر والعالَم يشي بـ"فوضى" عارمة... لكن بالمعنى التدميري، لا الإنتروبي، للكلمة.