بغضّ النّظر عن السيناريو الذي سيحصل، الحلّ الذي ينتظره الجميع من باب توافق القوى السياسية لا يُمكن أن يُبصر النّور...
لن يكون لبنان في منأى عن تداعيات الحرب الطاحنة التي تقوم بها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين في غزّة. وحتّى لو لم يشترك لبنان في الحرب العسكرية بناءًا على ضغط المجتمع الدولي، وتفاديًا لما قيل حول "تدمير كامل للبنية التحتية اللبنانية"، إلّا أنّ التدعيات ستطاله وذلك من البوابة الاقتصادية، عبر الحصار الإقتصادي والعقوبات التي قد تأتي أسرع ممّا هو مُتوقّع.
كنا قد لفتنا في مقالنا الأسبوع الماضي على موقع "الصفا نيوز" إلى أنّ هناك معطيات فعلية تُشير إلى أنّ لبنان سيكون عرضة لحصار إقتصادي سيؤدّي حكمًا إلى منعه من المشاركة في ما يحصل في غزّة. إلّا أنّ القضية لم تنته عند هذا الحدّ، فبحسب معلومات متداولة في كواليس الديبلوماسية هناك عقوبات ستطال عشرات اللبنانيين من سياسيين ورجال أعمال وموظّفين وجمعيات، ولن تتأخّر بالظهور خلال الأسابيع والأشهر القادمة بحسب المصادر.
لائحة أميركية طويلة بأشخاص وكيانات تمّ تصنيفهم بفاسدين بحسب قانون ماغنيتسكي الدولي
وفي التفاصيل، هناك لائحة أميركية طويلة بأشخاص وكيانات تمّ تصنيفهم بفاسدين بحسب قانون ماغنيتسكي الدولي (Executive Order 13818) وإرهابيين بحسب تصنيف مكافحة الإرهاب (Executive Order 13224، Executive Order 12947...)، وستصدر هذه اللائحة، بحسب قرار الإدارة الأميركية، إمّا تباعًا أو دفعة واحدة. وتقول المصادر أنّ الأشخاص المُدرجين على اللائحة هم من عدّة طوائف مع التركيز على أشخاص وكيانات لها نفوذ مالي و/أو إداري.
هدف العقوبات
وهنا يُطرح السؤال عن الهدف من هذه العقوبات كما والحصار الإقتصادي المُتوقّع بدء حصوله، مع بدء التعقيدات على عمليّات الإستيراد؟
عدّة نقاط يتوجّب ذكرها لأنّها تُساعد على إيجاد جواب على هذا السؤال:
أولًا – مما لا شكّ فيه أنّ الدور الإستراتيجي للبنان كدولة محورية في التجارة الإقليمية وكبوابة للخليج العربي، قد إضمحلّ لصالح الدولة العبرية التي أصبحت منذ شهر تقريبًا، الممرّ للطريق الذي يربط الهند بأوروبا مرورًا بالإمارات العربية المُتحدة والمملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية والدولة العبرية (برًا) وصولًا إلى أوروبا عبر البحر من مرفأ حيفا.
ثانيًا – أضف إلى ذلك أنّ الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط أصبح ذات بعد إستراتيجي بالنّسبة لأوروبا من باب الغاز القابع في عمق البحر. وبالتالي أصبح لهذا الحوض ثقل على الساحة العالمية، وهو ما يعني أنّه لن يتمّ ترك مُستقبله لتقلّبات السياسات المحلّية وأهواء القيّمين عليها.
ثالثًا – بعض الدول الإقليمية تواجه مشاكل إقتصادية جمّة، وتحتاج إلى نشاط إقتصادي إقليمي يسمح لها بمواجهة مستحقّاتها الداخلية والخارجية. وبالتالي وفي ظلّ ما هو مطروح للمنطقة من خطط إقتصادية، تجد هذه الدول مصالحها مؤمّنة.
رابعًا – إعادة إعمار سوريا مشروع مُربح ماديًا للعديد من الدول الإقليمية والدولية، وبالتالي الحديث مع النظام السوري قائم على قدمِ وساق من أجل إدخاله في هذا المشروع بعد فشل الحلّ العسكري.
خامسًا – يُعارض الفلسطينيون كما وعدّة دول إقليمية، تطبيق هذه الخطط. وبالتالي عملت عدّة دول خليجية من خلال المفاوضات القائمة مع إسرائيل (بالطبع قبل عملية 7 تشرين الأول) على حلّ الدولتين، وذلك بهدف إيجاد حلّ للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وإشراك الفلسطينيين في مشروع المنطقة.
سادسًا – لبنان "الرافض" لهذا المشروع، يُشكّل تهديدًا على المدى القصير، المتوسط والبعيد خصوصًا مع إمتلاك المقاومة لأسلحة قد تطال المصالح الإقتصادية المُشتركة بين الدول المُنخرطة في هذا المشروع. وبالتّالي يتوجّب إضعاف قدرته على التعطيل أو التأثير!
مما سبق، نرى أنّ المنطقة تحتاج إلى ثبات سياسي وأمني لتنفيذ المشاريع المرسومة، وهو ما يتمّ العمل عليه على أكثر من جبهة خصوصًا اللبنانية، حيث تأتي العقوبات معطوفة على الحصار الإقتصادي وعلى التهديد العسكري، لتصبّ في إتجاه لجم قدرة لبنان على تعطيل مسار المشروع الإقتصادي – السياسي في المنطقة، وذلك من باب حرمان لبنان من القدرة على القيام بأيّ عملية تعطيل له، خصوصًا أنّ لبنان يمرّ في ظروف إقتصادية صعبة تجعل من القرار السياسي اللبناني لينّ جدًا لصالح المطالب الخارجية. وأكبر مثال على ذلك خطّة التعافي الحكومية التي تُظهر إنسحاقًا كاملًا للحكومة أمام المطالب الدولية.
ماذا ستُغيّر العقوبات لبنانيًا؟
الإجابة على هذا السؤال ليست بسهلة، إلّا أنّ هناك عدداً من النّقاط التي يُمكن الجزم بها:
أولًا – تحدّ العقوبات على الأشخاص من قدرتهم على التنقّل دوليًا.
ثانيًا – تمنع العقوبات الأشخاص من استلام مناصب رسمية خصوصًا على مستوى السّلطة التنفيذية.
ثالثًا – تحدّ العقوبات من قدرة الأشخاص على القيام بنشاطات تجارية بشكلٍ مشروع، وهو ما يحدّ من قدرتهم المالية وبالتالي نفوذهم.
رابعًا - تحدّ العقوبات من قدرة الجمعيات والمؤسسات المُعاقبة على تمويل المُجتمع والأحزاب التي تدعمها، وبالتالي ينتفي دورها كعنصر أساسي في استمرار المنظومة الحاكمة القائمة على تكتّل المصالح والأحزاب.
خامسًا – تدفع العقوبات (أقلّه نظريًا) إلى إبتعاد أفراد المُجتمع عن الأشخاص والمؤسسات والجمعيات المُعاقبة، وهو ما يعني نجاح القوى الخارجية بإبعاد الأشخاص المعاقبين عن الشأن العام.
نجحت التهديدات والتحذيرات الدولية حتّى الساعة من لجم الشهية المحلّية من التأثير على القرارات الخارجية. لكن هل يبقى الأمر كذلك أم أنّ هناك مسار آخر؟ هنا يظهر إحتمالان:
- الأول نجاح العقوبات في تغيير القرار السياسي اللبناني إنطلاقًا من مبدأ أنّ الضغط الإقتصادي يُليّن القرار السياسي.
- والثاني (وهو الأكثر إحتمالًا) زيادة التعقيدات في مسار التعافي الإقتصادي مع زيادة الإنقسام الداخلي بين القوى السياسية وإمتلاك بعضها قدرة التعطيل بشكلٍ مُلفت، أضحت معه الدولة اللبنانية هيكلًا فارغًا من إدارته ومعزولًا ماليًا عن العالم.
في كلّ الأحوال وبغضّ النّظر عن السيناريو الذي سيحصل، الحلّ الذي ينتظره الجميع من باب توافق القوى السياسية لا يُمكن أن يُبصر النّور، لأنّ القوى السياسية كانت وستبقى تبحث عن مصالحها وكيفية بقائها في السلطة، وبالتالي لن يأتي التغيير في مسار إدارة الدولة إلّا من باب التغيير في مزاج الناخب اللبناني. فهل تؤدّي العقوبات والحصار الإقتصادي إلى تغيير هذا المزاج؟ الوقت وحده كفيلٌ بالردّ على ذلك.