خطاب السيد نصر الله بقي محسوباً، ومحاذراً اللجوء إلى التصعيد الآن مع العدو...
كثيرون توقّعوا أن يكون خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الذي ألقاه يوم الجمعة الواقع فيه 3 تشرين ثاني 2023 تصعيديّاً، وأن يعلن خلاله الدخول في الحرب بشكل كامل ضدّ العدو الإسرائيلي. إلّا أنّ الخطاب جاء متوازناً، وتجنّب التصعيد مشيراً إلى إنّ المقاومة الإسلامية في لبنان كانت قد دخلت الحرب ضد العدو في اليوم الثاني لهجوم حماس، الذي وقع في السابع من تشرين أول، وأدّى إلى اجتياحها لعدد من المستوطنات، وقتلها عدداً كبيراً من الجنود وأسرها مئات آخرين في مشهد يحصل لأوّل مرة منذ حرب تشرين أول 1973.
المواجهة بين المقاومة وإسرائيل بالأرقام
والجدير ذكره أنّ المواجهات بين المقاومة الإسلامية في لبنان والعدو الصهيوني هي الأكبر منذ عدوان تموز 2006 على لبنان، وقد دفعت بإسرائيل إلى نشر ثلاثة فرق من أصل فرقها الثمانية على طول الحدود مع لبنان، ما جعلها لا تستطيع تركيز كامل قوّاتها ضدّ فصائل المقاومة في غزّة. وقد سقط للحزب خلال هذه المواجهات ما لا يقلّ عن ستين شهيداً إضافة إلى عشرات الجرحى، عدا عن استهداف الجيش الإسرائيلي لعشرات البلدات الحدودية اللبنانية. في المقابل فإنّ خسائر العدو على الجبهة اللبنانية وحدها بلغت حتّى اللحظة أكثر من 120 قتيلاً، إضافة إلى تدمير ما لا يقلّ عن 10 دبابات ميركافا، وعشرات الآليات الأخرى وقصف أكثر من مئة موقع عسكري حدودي وتدمير 33 رادارا و140 كاميرا مراقبة و17 نظام تشويش و69 منظومة اتصالات و27 منظومة استخبارات ومسيّرة واحدة وقصف 28 مستوطنة، ما أدّى بالعدو إلى إخلاء نحو سبعين ألف مستوطن من المستوطنات الحدودية.
وعلى الصعيد الاقتصادي فإنّ الوضع في لبنان لم يتأثّر بالحرب حتّى الآن إذ لا يزال الدولار مستقرّاً عند حدود 89700 ليرة لبنانية، وحركة الأسواق طبيعية والبضائع متوفّرة، ولا خطر على الأمن الغذائي (الطحين والمواد الغذائية موجودة) والأدوية متوفرة إضافة إلى أنّ حركة النّقل البرّي والبحري طبيعية، والمدارس والجامعات تواصل تدريسها والمؤسسات التجارية تواصل أعمالها. أمّا العدو فيعاني حتّى الآن من انهيار الشيكل، رغم ضخّ المصرف المركزي الإسرائيلي نحو خمسين مليار دولار من احتياطي العملات الأجنبية لتجنّب مزيد من الانهيار، ووضع "موديز" و"فيتش" لتصنيف إسرائيل الائتماني قيد المراقبة، وتخفيض "ستاندرد آند بورز" نظرتها المستقبلية إلى سلبية بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي، وتراجع البورصة 8%، مع خسارة تقدّر بـمليارين و800 مليون دولار إضافة الى شلل القطاع السياحي.
الأثر على موقف السيد نصر الله
كلّ هذا كان قد أخذ في الحسبان من قبل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله حين ألقى خطابه الأول منذ بدء جولة الصراع الجديدة هذه، فالمقاومة تخوض الحرب. أمّا لماذا لم يقم السيد نصر الله بتصعيد سقف النزاع مع إسرائيل، فيعود إلى عدّة أسباب أوّلها أنّ هذه المعركة قد تدوم طويلاً، وبالتالي فهي بحاجة إلى نفس طويل وعدم الانجرار إلى الانفعال، باتّخاذ القرار لإرضاء رغبات شعبوية. لذا فهو أشار في خطابه إلى أنّ الصراع مفتوح، وأنّ كلّ الاحتمالات واردة، في إشارة إلى إمكانية تصعيد المواجهة مع العدو.
امّا السبب الثاني فيكمن في أنّ المقاومة في لبنان ومن خلفها إيران، لا تريدان الانجرار إلى فخ يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نصبه، عبر تصوير المقاومة الفلسطينية في غزة على أنّها أداة إيرانية. لذا فإنّ السيد نصر الله أشار في الخطاب إلى أنّ الهجوم الذي قامت به حماس لم يتمّ تنسيقه مع المقاومة في لبنان أو القيادة في إيران، عدا عن أنّ إبقاء وتيرة الصراع أعلى في غزة، يهدف إلى التركيز على دور المقاومة الفلسطينية في الصراع.
بالنّسبة للسبب الثالث فيكمن في أنّ السيد نصر الله يعي أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واقع في ورطة سياسية منذ ما قبل اندلاع جولة الصراع الأخيرة. فهو أدخل الكيان الصهيوني في أزمة منذ العام 2018، حيث شهدت إسرائيل منذ ذلك الوقت انقساماً سياسياً حاداً نتيجة الاتهامات لنتنياهو بالفساد، وهو ما أدّى إلى شرذمة النّخبة السياسية وساهم في حالة لا استقرار سياسية، تمّ التعبير عنها عبر إجراء خمسة انتخابات في خمسة أعوام، أدّت إلى حكومات ضعيفة. ويتمسّك نتنياهو بالسّلطة ويحاول تعديل القانون الإسرائيلي لإخضاع المحكمة العليا لسلطة الكنيست لتجنّب محاكمته بتهم فساد. لذا فإنّ نتنياهو وجد في الصراع الدائر في غزّة فرصة للهروب إلى الأمام والتعمية على أزمته الحالية.
وبالنّسبة للسبب الرابع فإنّ السيد نصر الله يعي أن نتنياهو، والذي سعى على أعوام خلت لدفع الولايات المتحدة لتوجيه ضربة مباشرة للمقاومة في لبنان ولإيران، يجد أنّه من الواجب عدم الانجرار إلى فخّ نتنياهو وتصعيد القتال على الجبهة اللبنانية، بما يؤدّي إلى حرب إقليمية يستفيد منها نتنياهو لتوسيع الصراع ليشمل العمق اللبناني وطهران، ويؤدّي إلى دخول الولايات المتحدة الحرب، وهو ما لا تريده واشنطن التي بدأت بتوجيه اللوم ضمناً لنتنياهو بإفشال كلّ مساعي وقف إطلاق النّار، على الرّغم من دعمها العلني اللا مشروط له.
ويبقى السبب الخامس وهو وعي السيد نصر الله لحراجة الوضع في لبنان. فهذا البلد يعاني من وضع اقتصادي لا يحسد عليه منذ عدّة سنوات، إضافة إلى معاناته من انقطاع علاقاته مع عدد كبير من الدول الخليجية، التي كانت تساهم في السابق في إعمار ما يتمّ تدميره على يد إسرائيل. لذلك فإنّه لا يريد أن يسارع إلى تصعيد مع إسرائيل لا يكون رداً على تصعيد إسرائيلي يفتح المجال أمام آلة الحرب الإسرائيلية لتدمير البنى التحتية في لبنان، وإعطاب اقتصاده المنهك أصلاً.
خلاصة
لكلّ هذه الأسباب فإنّ خطاب السيد نصر الله بقي محسوباً، ومحاذراً اللجوء إلى التصعيد الآن مع العدو. لكن هذا لا يعني أنّ خيار الصراع المفتوح مع العدو لن يكون مطروحاً، وهو ما سيحصل حتماً في حال شعرت المقاومة في لبنان أنّ المقاومة في غزة ستصبح في وضع حرج، هنا لن تتردّد المقاومة في المشاركة بقوّة في الصراع، بمعزل عن كلّ المحاذير والعوامل التي أوردناها سابقا.