الجلسة التي كان من المقرّر عقدها بالأمس تأجّلت إلى اليوم. وعلى جدول أعمالها موضوع واحد يتعلّق بإعادة هيكلة الأسواق المالية لتأمين استمراريتها.
انعكست حماوة التصعيد الحربي جنوباً، حرائقاً على خطّ تماس مصرف لبنان وهيئة الأسواق المالية – CMA. فبدلاً من العمل على تبريد الأرضية، تمهيداً لـ "زراعتها"، باستثمارات جديدة تجذب الرّساميل وتخلق فرص العمل وتزيد عائدات الهيئة، "صُب زيت" الطائفية فوق "نيران" الخلافات المستحكمة بين أركان الهيئة، وبينهم وبين حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، بصفته الرئيس الأعلى. وتحت شعار "يا غيرة الدّين" أخذ التعطيل منحى جديداً أخرج الأمور عن عقالها، وشوّه صورة لبنان ومؤسساته أكثر ممّا هي مشوّهة.
قبل ساعات من اجتماع هيئة الأسواق المالية الذي كان مقرراً يوم أمس 30 تشرين الاول، والمخصص للبحث بإعادة "هيكلتها" كمقدّمة لتفعيل عملها، شُنّت حملة غير مسبوقة في الشكل والمضمون على فقدان "الميثاقية" داخل الهيئة. وهو ما سيدفع بحسب السيناريو المفترض بالأكثرية المسلمة في مجلس إدارتها، إلى تفويض الحاكم بالإنابة، المحسوب عليها "مذهبياً"، صلاحيات مطلقة في الحلّ والربط والتوظيف والصّرف. وقد استند المعترضون على انّه لم يبق إلّا عضواً واحداً مسيحياً في مجلس إدارة الهيئة. وذلك بعد تولّي النائب الأول لحاكم مصرف لبنان الشيعي، المسؤولية بدلاً من الحاكم الماروني. وعدم تمكّن مدير عام وزارة المالية من حضور الاجتماعات مكلّفاً، ولم يقسم اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية. وينتقد السيناريو انتقال صلاحيات أمانة سرّ الهيئة إلى مساعدة رجا أبو عسلي بعد استقالته.
لا ميثاقية في هيئة الأسواق المالية
"السيناريو المفبرك، تمّ إخراجه بطريقة ركيكة"، بحسب مصادر متابعة. "إذ أنّ هيئة الأسواق المالية ليست الحكومة أو مجلس النواب، لكي تراعي الميثاقية. هذا من حيث الشّكل، أمّا في المضمون فإنّ "الهيئة" مكونة من ثلاثة أعضاء متفرغين يعرفون بالخبراء (وليد القادري، واجب قانصو، فؤاد شقير)، يضاف إليهم ثلاثة أعضاء يشاركون تلقائياً، وهم مدير عام وزارة الاقتصاد أو من ينوب عنه، مدير عام وزارة المالية أو من ينوب عنه، ورئيس لجنة الرقابة على المصارف". وبحسب المصدر فإنّ الفريق الذي يدّعي فقدان التوازن داخل الهيئة هو من عطّل في الأساس عملية قسم اليمين لمدير عام وزارة المالية أمام رئيس الجمهورية لعدم رضاها عنه. وهو ما أدّى إلى الحؤول دون حضوره الاجتماعات. كما أنّ أحد أعضاء الهيئة من الخبراء المعترضين على خلل التوازن، يمتنع عن المشاركة بالجلسات منذ ما قبل خروج الحاكم السابق رياض سلامة. أمّا في ما يتعلّق بأمانة السرّ للهيئة فهي منفصلة عن المجلس، ويعيّن رئيسها بقرار يتّخذه مجلس الإدارة ولا يوجد بالقانون شيء يحدد طائفة أو مذهب الأمين العام أو أن تكون من داخل ملاك هيئة الأسواق. وفي ما خصّ تفويض الصلاحيات للحاكم فهو مرفوض، ولا يوجد أي إجماع على نقل الصلاحيات له كما حصل أيّام سلامة. ذلك مع العلم أنّ من يدعي حرصه اليوم على صلاحيات مجلس الإدارة من الخبراء، هو من وافق على تفويض سلامة الصلاحيات في اوقت الذي كان فريقه السياسي يشنّ هجمة على سلامة.
الحاكم والهيئة
الإجماع على عدم تفويض الحاكم صلاحيات مجلس إدارة الهيئة، يترافق مع استياء الأعضاء، مختلف الأعضاء، من طلب الحاكم وبعض إجراءاته. فعدا عن تضمّن التفويض مخالفة قانونية نظراً لكون الصلاحيات هي لمجلس الإدارة مجتمعاً، وليس للرئيس، فإنّ الطلب فيه ما يشبه الفوقية والتسلط على قرارات الهيئة. خصوصاً في ما يتعلّق بإمكانية التعيين والفصل وتحديد الرواتب وتغيير رؤساء الدوائر. ويستند الحاكم بالإنابة وسيم منصوري بطلبه هذا إلى سابقة تفويض الصلاحيات من نفس المجلس لرياض سلامة. إلّا أنّ التفويض لسلامة لم يكن مطلقاً، بل اقتصر وقتذاك على مهمّة محدّدة وصغيرة تتعلّق بالتواصل بين الأعضاء الخبراء غير المتفقين للتوصّل إلى حلول. في حين ما يطلب اليوم هو توسيع لهذه الصلاحيات. وكان منصوري قد اتّخذ من دون تفويض قراراً بتعيين مديرة جديدة لهيئة الرقابة المالية (م.م) خلفاً للمدير السابق، في ظلّ اعتراض على الاسم من قبل أعضاء المجلس. كما يؤخّر الحاكم من دون سبب طلب الالتقاء به من أحد أعضاء مجلس الإدارة منذ نحو الشهرين.
على المقلب الآخر تنقل أوساط مطّلعة "يأس" الحاكم بالإنابة من خلافات مجلس إدارة الهيئة واقتناعه بصعوبة التوصّل لحلّ نظراً لتمسّك كل طرف بوجهة نظر فريقه السياسي. وهو الأمر الذي يدفع به إلى طلب الصلاحيات لتسيير الأمور، بعيدا عن الخلافات المستحكمة بالهيئة.
حلحلة على الطريق
الجلسة التي كان من المقرّر عقدها بالأمس تأجّلت إلى اليوم. وعلى جدول أعمالها موضوع واحد يتعلّق بإعادة هيكلة الأسواق المالية لتأمين استمراريتها. على أن يصار في الاجتماع القادم إلى تخليص الأمور العالقة بـ "التي هي أحسن"، والبتّ بطلبات التراخيص العالقة. وبحسب ما رشح من معلومات فإنّ الجلسة قائمة لكون النصاب القانوني الذي يتطلب حضور أربعة اعضاء متوفّر، وهي مفتوحة لكلّ الأعضاء للتعبير عن رأيهم والاعتراض بقدر ما يشاؤون ضمن الأصول القانونية. وستبحث الجلسة في تخفيض أعداد الموظّفين وتحديد الموازنة المطلوبة. وهو ما يسهّل على الحاكم طلب التمويل من السلطة السياسية وتحديداً الحكومة بصورة واضحة وصريحة.
على الرّغم من أهميتها، فإنّ مشكلة "الهيئة" على ما يبدو ليست "رمّانة" التمويل، إنّما "قلوب مليانة". ولعلّ الأخطر هو وضع بعض من في مجلس الإدارة الحسابات الشخصية والسياسية وحتّى الطائفية فوق مصلحة الاقتصاد وإمكانية تعافيه مستقبلا. فعدا عن الدور الرائد للهيئة المعوّل عليه في الإصلاحات المالية وتشديد صندوق النقد الدولي على تفعيل عملها، فإنّ وجودها يعتبر أساسي لتأمين التمويل للاقتصاد والمؤسسات من جهة، وضمان حقّ الأفراد والمستثمرين من الجهة الثانية. ومن دون وجود هيئة قوية ومتوافقة ومتجانسة، تضع "الولدنات"، على حدّ توصيف أحد المستثمرين، جانباً، فإنّ الثقة ستعدم بلبنان. وستنتشر دكاكين المؤسسات المالية و"الكونتوارات" غير المرخّصة والتي ستمعن في سرقة الأفراد وتشويه سمعة الاقتصاد من دون حسيب أو رقيب. كما ستفقد المؤسسات التجارية والإنتاجية فرصة تمويل حقيقية بعد انهيار القطاع المصرفي. مع كلّ ما تحمله هذه التطورات من انعكاسات سلبية على وضع البلد والاقتصاد ومصلحة المواطنين في واحدة من أدق المراحل التي يمرّ بها لبنان. ألم يحن الوقت لوضع الخلافات جانباً والانطلاق بتفعيل دور هيئة الأسواق المالية التي عيّن الأعضاء لخدمة أهدافها؟ سؤال برسم كلّ حريص على ما تبقّى من لبنان.