قد تكون الأزمة الاقتصادية التي عانى منها لبنان أفضل مثال لشرح كيفيّة تغيّر سلوك المستهلك في الأزمات...

على الرّغم من أنّ سلوك المستهلك يعتبر نقطة انطلاق رئيسيّة لأيّ حملة إعلانيّة، ويستخدم كعلم قائم بذاته للتأثير على المستهلكين ودفعهم باتجاه شراء سلعة ما، إلاّ أنّ هذا السلوك تحفّزه أيضا الأزمات من كوارث طبيعية وحروب وغيرها من الأحداث المفاجئة التي تطرأ على حياة الأفراد، فينتج عنها سلوك استهلاك مغاير لما اعتاد عليه الفرد.

وقد تكون الأزمة الاقتصادية التي عانى منها لبنان أفضل مثال لشرح كيفيّة تغيّر سلوك المستهلك في الأزمات. حيث شهدنا "هجمة" من المواطنين لشراء وتخزين السّلع مع كل ّ تحذير من احتمال انقطاع سلعة ما. وهو ما سبب "طوابير الذلّ" أمام محطّات البنزين في أزمة شحّ المحروقات، و"طوابير الخبز" أمام الأفران في فترة أزمة شحّ الطحين. أو زيادة بيع الدولارات مع كلّ انخفاض لسعر الصرف في السوق الموازية، وارتفاع البيع مع كلّ صعود له. حيث يكون الخوف هو المحرّك الرئيسي لهذا السلوك الاستهلاكي، خصوصاً في فترة الأزمات.

حتى أنّ أزمة كورونا أدّت إلى تغيير جذري في سلوك الاستهلاك لدى المواطنين حول العالم، وتُرجم ذلك بزيادة كبيرة في الإنفاق على الغذاء وباقي السلع والخدمات. لا بل غيّرت كورونا عالم الوظائف والتعليم، وزادت من الاعتماد على سلوكيات حديثة مثل العمل من المنزل أو working from home والـ online studies، أو التعلّم عن بعد. وعزّزت مفهوماً جديداً للاستهلاك، وهو والـ online shoppingأو ما يعرف بالتسوّق عن بعد.

العوامل التي يرتبط بها سلوك المستهلك

إلى ذلك يرتبط سلوك المستهلك بعوامل اجتماعية ونفسية واقتصادية وثقافية وحتّى شخصية.

وتندرج تحت خانة العوامل الاجتماعية: الدوافع المتعلّقة بالأهل والأصدقاء والمكنات الاجتماعيّة. حيث يقتبس الفرد سلوك الاستهلاك من أهله ويتأثّر بأصدقائه فيتبنّى أسلوبهم. فإن خاف هؤلاء من الحرب وقرّروا تخزين السلع يقوم بتقليدهم. كما ينصاع إلى متطلّبات المكانة الاجتماعية التي يحتلّها. ويخشى أن تؤدّي الحرب إلى تراجع مكانته الاجتماعيّة، فيلجأ إلى الاستثمار الآمن وهو غالباً ما يكون الذهب.

ونجد في خانة العوامل النفسيّة: الدوافع، وتترجم في فترة الحروب بالرّغبة في البقاء على قيد الحياة أو ما يعرف بغريزة البقاء. بالإضافة إلى الادراك والمعرفة، حيث يدرك الفرد أنّه في حالة حرب فيبدأ بتجميع المعلومات بغزارة وتحليلها لوضع خيارات أمامه، مثل ماذا نفعل إن قصف العدوّ مناطقنا؟ أو قصف المطار؟ أين نذهب؟ أيّ المناطق هي الأقلّ خطراً وتهديداً؟ هل نبقى في بلدنا أو نهاجر؟ هل نخزّن الأكل او لا؟ هل نشتري ذهباً أو لا؟ هل نطلب قرضاً أم لا؟

ليأتي من بعدها التعلّم، حيث يبدأ المستهلك وبعد اكتسابه المعلومات وفهم حقيقة الوضع، بتغيير أنماط استهلاكه، فيستغني عن سلع على حساب أخرى، وتتضّح أولوياته. فيتأثّر أخيراً سلوكه، حيث قد يتعلّق ببعض السلع التي تبدو رئيسية له.

أمّا في العوامل الثقافية فنذكر: الثقافة الشخصية، وهي مجموع الموروثات والعادات التي اكتسبها الفرد وتؤثّر مباشرة على استهلاكه لسلعة ما دون أخرى. فإذا كان الشخص قد اعتاد على نوع معيّن من الأنشطة على سبيل المثال، سيجد في فترة الحروب صعوبة للتأقلم مع الوضع الجديد. حيث يستمرّ في الفترة الأولى من الحرب بممارسة نشاطه المعتاد، كنوع من رفض للواقع. والثقافة الفردية تتأثّر أيضا بالثقافة الفرعية (أي المحيط من عائلة وأصدقاء) وبالطبقة الاجتماعيّة، على غرار ما ذكرناه في العوامل الاجتماعية.

وبدورها تلعب العوامل الشخصيّة دوراً مهماً أيضا في سلوك المستهلك، فللعمر تأثيره والشخصية أيضاً، والوظيفة وأسلوب الحياة. فكلّها تحكم تصرّفات المستهلك، وتفكيره.

وأخيرا تأتي العوامل الاقتصادية، وتحوي أولاً، الوضع الاقتصادي للدولة، حيث تعتمد عادات الشراء الاستهلاكية وقرارات المستهلكين بشكل كبير على الوضع الاقتصادي لبلدهم. فعندما تكون الدولة مزدهرة، يكون الاقتصاد قويًا، ممّا يؤدّي إلى زيادة المعروض النقدي في السوق وزيادة القوّة الشرائية للمستهلكين. في المقابل، يعكس الاقتصاد الضعيف سوقًا متعثرة تتأثر بالبطالة وانخفاض القوة الشرائية. وثانياً، يأتي الدخل الشخصي، فعندما يزداد دخل الشخص يزداد معدل إنفاقه، بالتالي تزداد القوة الشرائية. وعلى العكس من ذلك، عندما ينخفض دخل الفرد يقلّ معدل الإنفاق على بنود متعدّدة بشكل متوازي. وثالثاً، الأصول السائلة، وهي الأصول التي يمكن تحويلها إلى نقد بسرعة دون أيّ خسارة. فعندما يكون لدى المستهلك أصول سائلة أعلى، فإنّ ذلك يمنحه مزيدًا من الثقة لشراء السلع الكمالية. من ناحية أخرى، إذا كان لديه عدد أقل من الأصول السائلة، فلن يتمكّن من إنفاق المزيد وشراء وسائل الراحة والكماليات.

التأثير النفسي للحروب على سلوك الاستهلاك

وفي هذا الإطار تشرح الدكتورة نيكول هاني، معالجة نفسيّة عيادية، في حديثها لموقع "الصفا نيوز" أنّ "الحروب والنزاعات تؤثّر بشكل فوري ومباشر على سلوك المواطن. حيث تزداد نسب الخوف والتوتّر والعصبيّة المرافقة باضطرابات نفسية. سواء اضطرابات ما بعد الصدمة أو صراع وتفكير زائد".

وأضافت هاني "وتخلّف مشاهد الحرب والدمار عواقب تؤثّر على السلوك والصحّة النفسية. وتترجم باستعادة ذكريات الماضي (حروب وصراعات سابقة) وتظهر على شكل حالات الاكتئاب واليأس والقلق والخوف واضطرابات النوم".

وأشارت إلى أنّ "العواقب النفسية للحروب وطريقة تعامل الأفراد معها تختلف من شخص لآخر. حيث يقوم بعض الأفراد بتجنّب الأخبار لعدم تعرّضهم للقلق، بينما يفرّغ قسم آخر من الأشخاص طاقاتهم السلبيّة وقلقهم بالترفيه. فيما ترتفع لدى البعض نسبة التدخين أو شرب الكحول، حيث يلجأون إليها للتنفيس عن الضغط الذي يعيشونه، فتبرز حالات الإدمان التي تؤثّر بشكل مباشر على روتينهم اليومي وطريقة تعاملهم مع أهلهم ومحيطهم في العمل".

والأسباب وراء هذا السلوك، بحسب هاني، قد تكون "القلق المفرط والخوف، والتوتر، والشعور بالعجز، والهمّ المفرط. كما قد يكون القلق وراثي أو بيئي، ويجعل الشخص متوتراً، فيغيّر سلوكه. حيث تبرز العصبيّة والعوارض الجسديّة والنفسيّة، كالإحساس بالذنب والرجفة والتعرّق، والتوتّر، وضيق النفس، والاكتئاب".

وتلفت إلى أنّ "الحلول تبدأ باللجوء إلى تمارين وأنشطة استرخاء، كالرياضة، والتمدّد، وسماع الموسيقى، والتخفيف من متابعة وسائل التواصل الاجتماعي، وسماع نشرات الأخبار التي بدورها تنقل طاقة سلبيّة وتزرع الخوف والقلق في نفوس المتلقّين، وتوثّر على سلوكهم. كما يجب اتباع نظام غذائي صحي، يعمل على رفع معنوياتنا، مع تنظيم ساعات نومنا، ومزاولة أنشطة ترفيهيّة مع الاختلاط بأشخاص أيجابيين. وإذا استمرّت هذه العوارض على الأشخاص اللجوء إلى متخصصين لمساعدتهم على تخطّي هذه المرحلة".

وإلى ذلك يواصل مؤشّر أسعار الاستهلاك ارتفاعه، حيث سجَّل لشهر أيلول 2023 ارتفاعاً بمعدّل 1.4 بالمئة مقارنة مع أسعار شهر آب الذي سبق. وفي مقارنة سنوية، ارتفع المؤشّر بمعدّل 208.5 بالمئة بين شهر أيلول 2022 وأيلول 2023.

تأثير سلوك الاستهلاك في الأزمات على الاقتصاد

من جهّته يشرح الخبير الاقتصادي الدكتور خلدون عبد الصمد في حديثه لموقع "الصفا نيوز"، أنّه "وفي بدايات الأزمة يظهر نوع من هجمة على تخزين المواد الأوّلية والسلع الرئيسية بالدرجة الأولى، كالطحين والمعلّبات، والزيت، والحليب، والسكّر، والملح، الحبوب. إلخ. من قبل الأفراد والتجار على حدّ سواء. حيث أنّ هؤلاء يعرفون جيّدا مبدأ العرض والطلب الاقتصادي، ما يعني أنّه عندما تختفي سلعة من الأسواق يزيد الطلب عليها فيرتفع سعرها، وبالتالي يحقّق التجّار المزيد من الأرباح، في ظل ّغياب الرقابة".

ويتابع، عبد الصمد، "رفع الاستهلاك سيليه الركود الاقتصادي. وبالتالي ستعود معدّلات الاستهلاك إلى الانخفاض. وهذه الدورة تعيد نفسها حتّى انتهاء الأزمة. والمشكلة أنّ الأسعار سترتفع في أوّل الأزمة، وسيصبح لدينا سوق سوداء، وتهريب. وأكثر السلع تأثّرا هي المحروقات. التي ستختفي بالكامل، بسبب الاستهلاك والتخزين".

وبدوره يؤكّد رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائيّة، هاني بحصلي، في حديثه لـ"الصفا نيوز"، أننا "بدأنا نلمس تداعيات واقع الحرب واللاحرب الذي يعيشه لبنان اليوم. حيث تشهد مناطق الجنوب ضعفاً في الطلب مقابل ارتفاع في الطلب على السلع الأساسية في مناطق أخرى كصيدا وبيروت والجبل، نتيجة موجات النزوح القويّة. والناس بدأت تخزّن هذه السلع، حيث ارتفع الطّلب عليها إلاّ أنّ الاستهلاك لم يتغيّر كثيراً".

وطمأن بحصلي إلى أنّ "قطاع الغذاء هو أقلّ قطاع معرّض للخطر في لبنان، حيث يضمّ 22 ألف نقطة بيع بالمفرّق، و5 آلاف شركة بين المستوردين والصناعيين، وبالتّالي وخلافاً للمستشفيات والمنشآت، إذا وقعت الحرب، لن يكون هناك مشكلة في تأمين الغذاء، لذلك فانّ تخزين السّلع اليوم غير ضروري، بل هذه العمليّة تقوم بحرمان طبقة معيّنة على حساب أخرى. حيث أنّ الكميّة المتوفّرة حاليّاً تكفي إلى 3 أشهر على الأقلّ في حال تعرّض لبنان لحصار اقتصادي".