حين حوّلت إسرائيل الشعب الفلسطيني إلى لاجئ في دول العالم المختلفة، لم تظنّ أنّه سيأتي اليوم الذي يتحوّل فيه إلى سفير لقضيته
كما نجحت عملية "طوفان الأقصى" في إظهار صورة الفشل والضعف الأمني والعسكري الإسرائيلي، نجحت الحرب الإسرائيلية على غزة بإظهار صورة الاحتلال الدموي التي كانت إسرائيل تمنع الإعلام الغربي من نقلها إلى العالم. ولن تنفع محاولات قطع شبكة الاتصالات والأنترنت التي لجأت إليها تل أبيب ليل أمس في حجب حجم المجازر المرتكبة، فالمسألة أصبحت ... أكبر من صورة وأكبر من خبر.
إسرائيل وظيفة وليست وطن، إسرائيل دور وليست قضية. وهذا التوصيف لا يأتي على لسان أعداء إسرائيل إنما على لسان رعاتها وحماتها الدوليين، وهو ليس وليد لحظة فتصريح الرئيس الأميركي جو بايدن الذي جاء على عجل إلى تل أبيب معلناً أنه "لو لم تكن هناك إسرائيل لكان على أميركا خلق إسرائيل لحماية مصالحها". وهذا الكلام ليس بجديد وليس وليد لحظة انفعالية، إذ سبق أن أعلنه بايدن في العام 1986 واصفاً إياها بأنها أفضل استثمار قامت به أميركا. ويبدو أن الرجل أعجبه ما قاله فكان أن كرره خلال استقباله الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتزوغ قبل نحو عام بالتمام.
إسرائيل وظيفة وليست وطن، إسرائيل دور وليست قضية
وهذا الدور هو الذي دفع واشنطن وغيرها إلى التدخّل بشكل مباشر عبر إرسال أساطيلها البحرية إلى المنطقة، وعبر تجنيد كلّ طاقاتها وقدراتها للدفاع عن إسرائيل وفتح مخازن الذخيرة لكلّ ما تحتاجه في حربها على غزة، لأنّ إسرائيل ليست وطناً، إنما مهمّة ودور حماية المصالح الأميركية. وهكذا يصبح مفهوماً وإن لم يكن مبرّراً هذه الاستماتة بالدفاع عن كلّ ما ترتكبه إسرائيل من مجازر بحقّ المدنيين الفلسطينيين.
وبهذا المعنى تكتسب عملية "طوفان الأقصى" أهمّيّة إضافية كونها شكّلت محطّة نوعية على صعيد الوعي العالمي بقضية فلسطين. خصوصاً بعدما برز انحياز المؤسسات الإعلامية الغربية إلى طرف دون طرف، وإهمالها للحقائق والوقائع وانخراطها في لعبة الدعاية السياسية والترويج بل وحتّى التمثيل على المشاهدين خدمة لمشروع ومصلحة. لم تنجح خوارزميات فايسبوك وانستاغرام في الحدّ من انتشار المعلومات والمنشورات. لم يكن خيار تعليق الحسابات وإقفال القنوات على يوتيوب كافياً. ولا حتّى تهديد المؤثرين من خلال العلامات التجارية حدّ من تناقل صور ما يحصل من مجازر بحق المدنيين، غالبيتهم من الأطفال والنساء.
بدا وكأن الجمهور الغربي يتعرّف على فلسطين للمرة الأولى، أصبحت الناس ترى بعيونها ولم تعد ترى من خلال القنوات التلفزيونية المنحازة بالكامل إلى إسرائيل. إنه الجيل الذي لم تنجح الماكينة الإعلامية الغربية بقولبته وبغسل دماغه بمروياتها للأحداث وبانتقائيتها للأخبار، إنّه جيل ريديت وديسكورد و4 تشان وتيك توك والمنصات المتنوعة بمجموعاتها المغلقة والمفتوحة. جيل متحسّس من الإعلام التقليدي متمرد على الروايات المتوارثة مشكّك بكلّ ما حوله. هي عوامل ساهمت بإبقائه بعيداً عن التأثّر بالدعاية والمظلومية الكاذبة.
صحيح أنّه تأثير في بداياته ولكنه بدأ يغيّر في السلوكيات حول العالم، والدليل هبوط سعر الأسهم الذي أصاب العديد من المؤسسات الداعمة للكيان الإسرائيلي نتيجة حملات المقاطعة. ورغم أنها حملات لا تزال متواضعة إلى حدّ ما لكنّ أثرها بدأ يترجم نفسه. العالم العربي بالدرجة الأولى لم يعد مستهلكاً فقط بل هو عالم منتج أيضاً، والمنتجات لم تعد غربية حصراً فهناك منتجات شرقية المصدر تغزو الأسواق الغربية نفسها. شركات كبيرة بدأت بحملات ترويج لتلميع صورتها ومحاولة صرف الأنظار عن تموضعها، في دلالة واضحة على حجم مأزقها.
حين حوّلت إسرائيل الشعب الفلسطيني إلى لاجئ في دول العالم المختلفة، لم تظنّ أنّه سيأتي اليوم الذي يتحوّل فيه إلى سفير لقضيته. وليس الفلسطيني فقط، فقضية فلسطين ونتيجة المجازر المرتكبة وحجمها، دفعت عشرات الآلاف إن لم يكن مئات الآلاف حول العالم إلى أن يكونوا متطوّعين للدفاع عن حق كلّ طفل فلسطيني بمستقبل آمن لا مكان فيه للتهديد الإسرائيلي لحياته.
يكفي رصد تفاعل الشارع الأوروبي والأميركي مع ما يحصل لنتيقّن أن موجة جديدة تجتاح العالم. فلسطين لم تعد وحيدة، والتعاطف معها ليس حكراً على أحد إنما هو واجب إنساني يتخطى الحدود وبالتأكيد يتخطى المصالح. ولا يمكن لأي عاقل أن يرضى بأن يكون وجوده في بقعة جغرافية ما، هو حماية لمصالح دولة أخرى. هذه هي الرسالة الجديدة التي تعيد إحياء حملات "ليس باسمنا" ولا من خلال ضرائبنا، لا لاحتلال الدول ولا لقتل المدنيين ولا لكل ما ترتكبه الدول من إجرام بحق الشعوب الفقيرة والمستضعفة.
المواجهات بين المتظاهرين دعماً لغزة من جهة وقوات الأمن من جهة أخرى، خصوصا تلك التي ظهرت فيها عنف القوى الأمنية بحق المحتجّين، أظهرت حرية التعبير الغربية على حقيقتها، هشّمت صورة العالم الحر التي تحولت إلى العالم الحربي المجنّد لمقتل طفل التجأ إلى مستشفى جريحاً او هرباً من طائرة حربية وصاروخ تبرعت بها أميركا لإسرائيل بأموال دافعي الضرائب.
فيديوهات الحوارات والردود على الدعاية الغربية، ومواجهة المواطنين للمراسلين والصحفيين الغربيين، وإعادة نشر كلّ ما يحصل بل وترجمته إلى لغات مختلفة، إظهار الدول التي تقف ضدّ التوصل إلى وقف لإطلاق النار كشركاء في جريمة قتل الأطفال. كلّ هذا يحصل اليوم رغم كل محاولات حجبه وصرف الأنظار عنه، بل والدفع إلى تبنّي روايات مختلفة للأحداث. ولا يمكن الحديث عن هذا التبدّل الذي تحدّثَت عنه ونبّهت إليه مراكز الدراسات الغربية نفسها من دون التوقف عند مصطلح "أسرلة" الذي تمت إضافته إلى قاموس أوربان (Israeled)، ويقصد بالمصطلح الشخص الذي يستولي على ممتلكاتك ويدّعي أنها ملكاً له، وعندما تعترض يلعب دور الضحية. على بساطة هذا التطور، إلّا أنّه يأتي بعد صمت لعشرات السنين، وهو مؤشر من ضمن المؤشرات التي ستتواصل وتكبر ككرة الثلج.
عادت فلسطين اليوم لتتصدّر الأخبار، ولا بدّ أن تعود فلسطين الوطن والشعب، لأنّها ليست وظيفة ولا دور ولا خدمة لمصلحة، إنما هي تاريخ وشعب وحضارة، هي انتماء لم تنجح اسرائيل بالقضاء عليه.